-
℃ 11 تركيا
-
3 سبتمبر 2025
د. محمد إبراهيم المدهون يكتب: الضفة الغربية… بين مخالب الضم والمشروع الوطني
د. محمد إبراهيم المدهون يكتب: الضفة الغربية… بين مخالب الضم والمشروع الوطني
-
3 سبتمبر 2025, 1:48:32 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
لم يكن اليوم مؤتمر سموتريش مع قادة المستوطنات مجرد فعالية سياسية عابرة، بل كان إعلانًا فجًّا عن نوايا احلالية متجذرة، اختزلها تحت شعار "خطة فرض السيادة"؛ سيادة يزعمونها على أرضٍ مغتصبة، وواقعٍ يسعون لشرعنته بترسانة الاستيطان والعنف والقوانين المفصّلة على مقاس حلم "أرض إسرائيل الكبرى". لقد جهر الوزير الفاشي بما ظلّت حكومات الاحتلال تتكتّم عليه لعقود: الضفة الغربية كلها هدف للضم، والشعب الفلسطيني ليس أكثر من أرقامٍ محشورة في كانتونات، تُدار كأجسام محلية بلا روح سيادة ولا أفق دولة، فيما تُمدّد (إسرائيل) سلطانها على الأرض بأوسع رقعة وأقل عدد من السكان.
هذه الخطة ليست طارئة، بل امتداد لمسار طويل بدأ منذ 1967 حين التهمت القدس الشرقية وفرضت عليها قوانين باطلة، ثم راحت تشقّ الأرض بالمستوطنات والطرق الالتفافية لتفتت الجغرافيا وتطوّق السكان. كانت كل خطوة مدفوعة برؤية أيديولوجية توراتية متطرفة، وجدت في "صفقة القرن" وغطاء ترامب وقودًا إضافيًا لتسريعها. واليوم، يأتي مشروع "حسم الضفة" ليفرض السيطرة على أكثر من ثلث الأرض، خصوصًا الأغوار والمستعمرات الكبرى، في عملية تهويد مبرمجة تسعى إلى خنق الفلسطينيين داخل جيوب محاصرة بالجدران والنقاط العسكرية. إنها محاولة لخنق الفكرة الوطنية نفسها، لقتل الحلم قبل أن يولد، ولإعلان نهاية الدولة الفلسطينية قبل أن ترى النور.
لكن الاحتلال لم يكتفِ بمصادرة الأرض، بل صعّد آلة القمع ضد البشر؛ آلاف المعتقلين، نساءً ورجالًا وأطفالًا، استشهاد معتقلين تحت التعذيب والإهمال، وجرائم يومية للمستوطنين تجري تحت حماية الجيش. حتى الحرم الإبراهيمي لم يسلم، إذ جرى انتزاع سيادته وتغليفه بمشاريع "ديانة إبراهيمية" زائفة تهدف لمحو الرواية الفلسطينية وطمس المكان. وفي المقابل، يقف القانون الدولي عاجزًا، يكتفي ببيانات مستهلكة لا توقف جرافة ولا تُعيد شهيدًا، كاشفًا عجز المنظومة الأممية أمام تغوّل القوة المدعومة من قوى كبرى.
لكن التجربة الفلسطينية عبر نصف قرن تروي حقيقة أخرى: أن الضم، مهما بدا راسخًا، يظل هشًّا. القدس التي أُعلنت "موحدة" ظلّت تنبض بالهوية الفلسطينية وتصدح بالمآذن والصلوات، وأي "أسرلة" لم تنجح في محو الانتماء. واليوم، حتى مع تعثر حرب غزة وتنامي الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية، تحاول حكومة نتنياهو الدفع بمشروع ضم أوسع يشمل المنطقة (C) والأغوار والمستوطنات الكبرى، بل وربما الضفة وغزة معًا، غير أن الرفض الشعبي والدولي يجعله أشبه بحلقة إضافية في مسلسل الاحتلال المأزوم، يثقل كاهل الفلسطينيين لكنه يستنزف (إسرائيل) أيضًا ويغرقها في صراع لا نهاية له.
وفي قلب هذه المواجهة، يتجسد التحدي الأكبر: المشروع الوطني الفلسطيني. فمنذ أوسلو، ظلّ الفلسطينيون ممزقين بين نهجين؛ نهج المقاومة الذي يرى التحرر واجبًا لا مفر منه، ونهج التسوية الذي يعوّل على التعايش السياسي. هذا الانقسام كان وما يزال العقبة الأخطر أمام وحدة الصف، وجعل استنهاض الوحدة الوطنية مهمة وجودية لا خيارًا سياسيًا. فالمطلوب اليوم هو صياغة استراتيجية شاملة، ترتكز على المقاومة والهوية المشتركة، وتوظيف أدوات القانون الدولي والمحافل الأممية، مع إعادة صياغة العقيدة الأمنية للسلطة لتصبح أداة حماية للأرض والشعب لا سوطًا على الرقاب، وتفعيل المقاطعة الاقتصادية، وتشكيل لجان مقاومة شعبية تتكامل مع العمل الدبلوماسي، واستدعاء الموقف العربي من سباته ليتحرك في معركة المصير.
إن المشروع الوطني يواجه خطر الذوبان إن بقيت الضفة مقطعة الأوصال والانقسام مسيطرًا، لكنّه يستعيد أنفاسه حين تتوحد الإرادة الفلسطينية، وحين تتحول المقاومة بكافة أشكالها إلى فعل يومي، ويصبح القانون الدولي ساحة مواجهة لا مجرد أوراق احتجاج. عندها فقط، يبقى علم فلسطين مرفوعًا كرمز للتحرر وكرامة الإنسان، وتظل القضية الفلسطينية عصيّة على الطمس، مهما حاول الاحتلال أن يفرض الضم أو أن يمحو الهوية.
فالضم ليس قدرًا محتومًا، والمشروع الوطني ليس جثة هامدة؛ إنما هو نهرٌ من دم وصمود، يواصل الجريان، ليكتب من قلب المعاناة أن فلسطين باقية، وأن الوحدة والمقاومة هما صمام الأمان وضمانة التحرير.








