-
℃ 11 تركيا
-
3 سبتمبر 2025
د. محمد إبراهيم المدهون يكتب: دار الندوة تجتمع في البيت الأبيض
د. محمد إبراهيم المدهون يكتب: دار الندوة تجتمع في البيت الأبيض
-
31 أغسطس 2025, 9:30:58 ص
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
في سياق الاجتماع التاريخي لدار الندوة، اجتمع أبو جهل وزعماء قريش، وأعينهم تتقد بالعداوة وقلوبهم مملوءة بالغِلّ الذي لا يعرف الرحمة، وهم يخططون لقتل النبي ﷺ الصادق الأمين الذي كشف فسادهم وفضح كبرياءهم أمام الناس. وقد كانت المؤامرة الموجَّهة نحوه كالسهام الحارقة "وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين" (الأنفال: 30)، غير أن نور الحق لم يخفت في صدر النبي ﷺ وظل صامدًا متحديًا مؤامراتهم، مرددًا قوله تعالى: "وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون" (يس: 9)، ومذكّرًا بأن قلوب الطغاة مهما تجمّعت لن تُطفئ نور الهداية، مرددًا لصاحبه في الغار: "لا تحزن إن الله معنا" (التوبة: 40)، ومؤكدًا أن العدوان مهما اشتد لن ينال من إرادة الله تعالى الغلابة "ومكر أولئك هو يبور" (فاطر: 10).
على غراره، شهد البيت الأبيض اجتماعًا يعكس سياقًا مشابهًا لتلك الاجتماعات التاريخية، حيث اجتمع الطامعون لوضع خطط لغزة بلا أهلها، احتشد فيه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب، والمتعهد البريطاني توني بلير، والداعي للإبادة كوشنير، بالإضافة إلى وزراء الاحتلال وعصابات الإبادة. في هذا الاجتماع، غاب العرب عن المشاركة الفاعلة، وكأنهم خارج التاريخ، مدعوون للقيام بدور صراف آلي عند الحاجة، أو لتقديم دعم مزيف للإعمار، أو توفير غطاء لإدارة تُفصَّل على مقاس النتن ياهو، وهناك تم رسم خرائط الدم بيد ترمب، مستبعدين أصحاب الحق ومستحضرين المجرمين لتقرير مصير شعب ما زال يقاتل تحت الركام. وقدّم كل من بلير وكوشنير خطط اليوم التالي، الأول لإدارة دولية مزعومة كمتعهد شخصي، والثاني لتحويل غزة إلى "ريفيرا ترامب" للمترفين، في حين فرض النتن ياهو أجندته معلنًا الترحاب باستثمارات ترمب في غزة، والبيت الأبيض يغطي ويتبع مستخدمًا المساعدات الإنسانية كمسرحية سياسية، بينما يعرف الشعب الفلسطيني أن النصر يبدأ وينتهي في غزة، لتصبح المدينة ساحة الحسم التاريخي حيث الإرادة الفلسطينية تتحدى مؤامرات الظلم الكبرى.
في تناقض فاضح، أكدت واشنطن في مجلس الأمن أنها الشريك الفاعل في حرب الإبادة والتدمير الجماعي، واقفة وحدها ضد إجماع 14 مندوبًا، داعمة عصابات الفاشية الصهيونية في تجويع وقتل المدنيين، غير آبهة بالقوانين الدولية، وقد كشفت المواقف الأمريكية زيف ادعاءاتها بالسلام، بينما أكدت تجارب العالم أن سلام العالم يبدأ في فلسطين، وأنه لا يمكن تحقيق سلام حقيقي إلا من خلال ظفر الشعب الفلسطيني بحقوقه الوطنية المشروعة في الحرية والاستقلال وحق العودة.
أما بروبغاندا "الصفقة الشاملة" فهي غطاء لتمرير إبادة غزة وتهجير أهلها وشراء وقت لحكومة التدمير والتهجير العنصري تحت رعاية أمريكية، فلا وقف للعدوان، ولا التزام بإنهاء الحرب، بل مشروع استسلام مقنّع يُراد فرضه على شعب يرفض الانكسار. الحقيقة أن المبادرة الوحيدة الجدية هي ما أعلنت المقاومة من وقف الحرب، انسحاب الاحتلال، وصفقة أسرى تُفتح بعدها أبواب إدارة وطنية جديدة، وقد أكدت حماس مرارًا أنها لن تكون جزءًا من أي إدارة مزوَّرة.
على الأرض، لا يكتفي الاحتلال بالطائرات والدبابات، بل أرسل روبوتاته المحمّلة بالموت وطائرات مسيرة تلقي قنابل الإبادة على أسطح البيوت المتبقية من بقايا مدينة غزة، وهي آلات صمّاء تُساق لتنسف حيًا كاملًا، فتتحول البيوت إلى رماد والأحلام إلى ركام، ويستهدف العدوان المدنيين على نطاق شامل، من أطفال ونساء وصحفيين وأطباء وعمال دفاع مدني، جميعهم محميون بالقوانين الدولية، ومع ذلك يُقتل الجميع بلا رحمة، كما تُفجّر المنازل ويُستهدف العمال وتُدمَّر شبكات المياه، وما لم يُقتل بالقصف يُفتك به الجوع والمرض، ومن ينجُ منهما يموت من القهر والتشريد، ليصبح سكان غزة رهائن الموت اليومي.
على الصعيد الشخصي، يقف الفرد وسط بقايا بيته، الركام الذي كان يومًا مأوى وحياة، مغطى بقطعة قماش، يتلمس ذكرياته بين الحجارة المتناثرة، متسائلًا عن استمراريته غدًا، وفي كل زاوية من الركام ذكرى أولاده الذين ارتقوا تباعًا، أصواتهم وصورهم ترافقه في صمت القهر، وتصبح كلمة "نزوح" غير قادرة على التعبير إلا عن قعر الجحيم، فالبقايا ليست مجرد جدران مهدمة بل عرق الجبين وتعب السنين، هنا وُلِد ونشأ وسهِر وتسامر وتزوج وأنجب وفرح وحزن، وكان البيت رمزًا ومجدًا، وسقف الأحلام أصبح رمادًا، ومع ذلك يرفض القلب الاستسلام.
غزة اليوم بين الانتظار المستمر والمفاوضات المعلّقة، كل بارقة أمل تتحطم بخبر جديد تاركة الروح في قلق دائم، ويرى الأطفال والشباب في طابور الانتظار لمستقبل مؤجل، والنساء يحملن عبء رعاية الجميع، وقلوبهن تصرخ في صمت، وكل يوم يمثل معركة نفسية، وكل تأخير يعني استمرار القصف، والسؤال البسيط "هل سننجو اليوم؟" يتحول إلى صرخة في القلب قبل النوم وبعده، ومع ذلك بين الصبر والأمل، يتحول الألم إلى صمود، مثبتًا أن الحياة رغم كل شيء ليست خيارًا بل أسلوب حياة.
تُظهر استطلاعات الرأي أن 78% من سكان غزة أعلنوا البقاء مهما كان الثمن، و97% يعرفون أن الخروج يعني المجهول بلا عودة، و94% يؤكدون أن النزوح ليس خلاصًا بل تسريع لجريمة التدمير والتهجير، ورغم الفقر الذي يمنع 65% من دفع تكاليف النزوح، يرى 70% أن الصمود هو السلاح الأشد فاعلية لتقصير عمر الاحتلال، وهذه ليست أرقامًا بل شهادة جماعية تؤكد أن غزة لن تُنتزع من جذورها، وأنها تبقى حيث يولد صمود من تحت الركام.
في مواجهة مخطط الاحتلال، تقع المسؤولية على المجتمع الدولي والجوار العربي، وعلى الإعلاميين لفضح جرائم الاحتلال وكشف زيف "المناطق الآمنة"، وعلى الوجهاء واللجان الشعبية لتثبيت الناس في أرضهم، وعلى المؤسسات الدولية للرفض الصريح لترك غزة لمطامع الريفيرا الفارغة، والمطلوب إغاثة السكان وإبراز الحقيقة، مع تسليط الضوء على كارثة التدمير الممنهج، المجاعة، وانهيار المنظومة الصحية، وكلها مخالفة للقانون الدولي والإنسانية، ويظل الاحتلال يروّج أنه يحارب حماس، بينما الحقيقة أنه شنّ حربًا شاملة على الحياة في غزة، يسحب أنفاسها من مدارسها ومستشفياتها وبيوتها.
بين دار الندوة والبيت الأبيض، وبين رماد الحرب وخرائط الطامعين، تقف غزّة كآخر قلاع الأرض، مدينة مدمّرة الجدران لكنها مشتعلة بالروح، تُشيّع أبنائها بالدموع وتصنع من الشهادة وقودًا للحياة، هنا لا تُقاس التضحية بالأرقام، ولا يُختصر الوجع بالجداول، فكل أم ثكلى صارت مدرسة، وكل طفل يولد تحت القصف صار وعدًا جديدًا بأن شعبًا كهذا لا يُكسر، وعلى طاولات الساسة تُرسم خرائط بلا شعب، تُلوَّن بالأخضر وتُغرى بالدولارات، لكن غزّة ترد بصوت واحد: "لسنا للبيع، ولن نرحل، غزة دمنا وكرامتنا."









