د. محمد إبراهيم المدهون يكتب: (إسرائيل) الكبرى وعقيدة الأغيار

profile
د. محمد إبراهيم المدهون كاتب ووزير فلسطيني سابق
  • clock 14 أغسطس 2025, 10:31:31 ص
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

كيف تحوّل النصوص التوراتية والصهيونية الدينية الصراع الفلسطيني إلى مشروع عقائدي يبرر الضم والتهجير ويصبغ الأرض بالدماء، ويحوّل السياسة إلى أداة لتنفيذ نبوءات نهاية الزمان

في قلب الشرق الأوسط، حيث تتشابك الجغرافيا والسياسة بالدين والأسطورة، تصاعدت أتون الصراع ليصبح كالجحيم المتقد، تتلاطم فيه القوى على الأرض وكأنها تمثل مشهدًا من نبوءات آخر الزمان. لم يعد العدوان مجرد نزاع على السلطة أو الأرض، بل صار طقسًا عقائديًا، وسفك الدم وجهادًا مفروضًا باسم الرب، تُغذّيه سرديات توراتية وإنجيلية تجعل الدم طاهرًا والقتل واجبًا مقدسًا. هنا، لا معنى للسلام إلا داخل نطاق نصوص مزيفة تُلبس السياسة غطاءً إلهيًا يحصن الاحتلال من أي مساءلة أو نقد.

تصريح نتنياهو عن "إسرائيل الكبرى" ينبعث من عمق عقيدة تلمودية ترى في "أرض الميعاد" من النيل إلى الفرات مهمة إلهية لا يقبل التفاوض عليها. هذا الفكر المتجذر في الصهيونية الدينية يجعل من الضمّ والتهجير ليس خيارًا، بل قدرًا مقدسًا. الصراع ليس حدودًا يمكن رسمها على الخرائط، بل عقيدة تحكمها نصوص توراتية يُعاد تأويلها لتبرير الاستيطان والقتل وطمس هوية الشعوب.

تكشف تصريحات نتنياهو عن وجه الاحتلال الحقيقي: "مهمة تاريخية وروحية" تتجاوز فلسطين لتشمل الأردن ومصر وسوريا والسعودية، مشروع توسعي ديني تلمودي يسعى لفرض هوية يهودية على المنطقة بأسرها. العدوان على غزة، إذن، ليس ردًا على عملية "طوفان الأقصى"، بل فصولًا أولى في كتاب طويل من الخراب، يمتد من الضفة إلى لبنان، ومن سوريا إلى مصر، وصولًا إلى الأردن، مع نية التمدد بلا حدود.

في حائط البراق، حيث يضع نتنياهو أوراقه في الشقوق "المقدسة"، يتجسّد السموّ الديني للعدوان. إيران وغزة ولبنان والضفة يهدّدها بتسلسل عدواني متدرج، بينما يُمنع الفلسطيني من الدعاء على أبواب المسجد الأقصى. المفارقة تطعن القلب: الاحتلال يكتسب شرعية دولية للتحريض، بينما يُحكم على المقاومة بالوصم بالإرهاب، رغم كونها دفاعًا مشروعًا عن الأرض والحياة.

ضمن ما يعرف بـ"عقيدة الأغيار" أو "الجوييم" – غير اليهود بحسب التقاليد التلمودية – تُستباح حقوق الشعوب الأخرى. يقول النص القرآني عنهم: "لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ" (البقرة: 78)، وكأن الحياة الإنسانية للآخرين مجرد هامش يمكن تجاوزه. غير اليهود يُنظر إليهم كأدوات أو عقبات في طريق إرادة مزعومة، وتصبح القوانين البشرية عاجزة عن حماية الحق. في هذا السياق، يتحول الدم والتهجير إلى شرعية دينية، ويصبح الاحتلال مشروعًا مقدسًا، بينما يُصنّف الدفاع عن الحقوق كخطيئة أو إرهاب. ازدواجية أخلاقية وسياسية صارخة تحكم المشهد، وتكشف استباحة ممنهجة لحقوق الآخرين تحت ستار العقيدة.

وفي قلب هذه الظلمات، تتجسّد "الصهيونية المسيحية" على هيئة قوة مؤثرة في سياسات الولايات المتحدة تجاه المنطقة. تيارات اليمين الإنجيلي، من دعاة الهيكل والسفارة إلى القرار الأميركي بشأن الجولان والقدس الشرقية، ترى أن معارك (إسرائيل) ضد إيران والعرب تمهّد لعودة المسيح. الأرض ليست وطنًا، بل مسرحًا لنبوءة، والدم الفلسطيني ثمنًا مقدسًا للخلاص الزائف.

(إسرائيل) لم تعد دولة، بل مستعمرة توراتية أميركية، تعتمد على أبدية الدعم الأميركي. هذا التحالف أفقدها استقلالها السياسي، وجعل عنفها محميًا بجسر جوي دائم، بينما تبقى فكرة إنتاج شريك سلام مستحيلة في إطار فكر توراتي يرفض نهاية للصراع. لكن هشاشة هذا التحالف تتجلّى في تراجع المشروع الإمبراطوري الأميركي، الذي قد يترك إسرائيل في هاوية وجودية تتفتت معها كل أوهام القوة والاصطفاء.

نحن، كشعب فلسطيني مهجر ومظلوم، نقاوم المحتل ليس في إطار نبوءات نهاية الزمان، بل في منطق الجهاد المشروع لنصرة المظلوم والدفاع عن الأرض. هذه الرؤية تدعونا لإدارة الصراع بحكمة، وضبطه بالبصيرة، ووزنه بميزان العدل الرباني، والإيمان بوعد الآخرة يجب أن يوجّه العمل والصبر ووحدة الأمة، لا أن يُستغل لنهب الأرض وسفك الدم.

المخاطر تتصاعد على القدس بالبدء بمشروع القدس اليهودية الكبرى 2050، إذ يجتمع التيار المسيحي الإنجيلي المتطرف مع جماعات يهودية متطرفة – مثل أمناء جبل الهيكل – على هدف واحد: هدم المسجد الأقصى وبناء الهيكل الثالث. الإيمان يتحول إلى تهديد، والعقيدة إلى مشروع استيطاني مدمر، لا انتظار فيه للقيامة بل محاولة صناعتها عبر إشعال حرب كونية باسم الرب.

حتى داخل المنظومة الدينية اليهودية، هناك مقاومة لهذه الرؤية. "ناطوري كارتا" والحريديم الأرثوذكس يعارضون قيام دولة (إسرائيل)، معتبرين إياه تمردًا على المشيئة الإلهية. بعضهم يذكّر بلعنة العقد الثامن، التي تفيد بأن أي مملكة يهودية لم تصمد أكثر من 80 عامًا، ومع دخول إسرائيل عامها الـ77، يعود هذا التحذير إلى واجهة الخطاب الداخلي، كإشارة إلى هشاشة الكيان.

تصريحات نتنياهو تكشف أن الاحتلال لا يعترف بالحدود أو بسيادة أي دولة عربية، وأن اتفاقات السلام معه مؤقتة. لذلك، يصبح التحرك الشعبي العربي لنشر الخرائط وشرح مفهوم "إسرائيل الكبرى"، ودعم المقاومة ووقف الحرب على غزة، خط الدفاع الأول ضد مشروع توسعي يهدد الأمن القومي العربي بأسره.

وسط هذا السواد، يبزغ الأمل في يقظة الشعوب ووحدة الصف الإسلامي والمسيحي المستنير، على أرضية إنسانية تقدّم الإنسان فوق أي نبوءة، والعدل فوق الانتقام، والسلام فوق الفوضى المؤدلجة. فصراع النبوءات، إذا تُرك بلا وعي ناقد، قد يحوّل الشرق الأوسط إلى مسرح دائم ليوم القيامة، ما يستدعي إعادة قداسة الإنسان فوق أي قداسة مزعومة للدم الأزرق.

 


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
التعليقات (0)