د. محمد إبراهيم المدهون يكتب: التيه برواية غزة

profile
د. محمد إبراهيم المدهون كاتب ووزير فلسطيني سابق
  • clock 7 أغسطس 2025, 12:52:06 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

قال تعالى: "فَإِنَّهَا مَحْرَمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ" (المائدة: 26)، في إشارة إلى عقوبة إلهية فُرضت على بني إسرائيل بسبب عصيانهم وتمردهم، حيث لم يكن التيه مجرد حرمان جغرافي من دخول الأرض المقدسة، بل تجلّى كحرمان رمزي من البركة والتمكين الإلهي.

 

واليوم، وبعد مرور أكثر من 23 شهرًا على العدوان على قطاع غزة، تغرق دولة الاحتلال في تيه سياسي وعسكري غير مسبوق. فشلت في كسر شوكة المقاومة الفلسطينية التي اعتمدت تكتيكات غير تقليدية وشبكات أنفاق أربكت حسابات المؤسسة العسكرية. ورغم تفوقها العسكري والحصار المشدد، عجزت تل أبيب عن تحقيق أي نصر حاسم، بينما تتصاعد الانقسامات داخل الكابينيت حول خيار "احتلال غزة"، في ظل تحذيرات من كارثة إنسانية وتهديد مباشر لحياة الأسرى.

 

في مشهد سياسي متشظٍّ، تتعمق أزمة القيادة داخل الكيان بين تيارات تدفع نحو اجتياح غزة لتحقيق مكاسب سياسية، وبين أصوات فكرية وعسكرية وأمنية – أبرزها رئيس الأركان زامير الذي تتعرض لهجمات من محيط نتنياهو – تحذر من العواقب الكارثية لهذا الخيار. ويعكس هذا الانقسام غياب التنسيق وارتباك القرار داخل المؤسسة الحاكمة، وتتزايد خطورته مع تراجع ثقة الجمهور بالحكومة، وتنامي دعوات من ضباط أمن سابقين لوقف الحرب وإعادة تقييم أهدافها. وفيما تعلن شرائح من النخبة الفنية والأكاديمية تمرّدها السياسي، يوظف نتنياهو المحرقة كورقة مكشوفة ضمن "شيك سياسي مفتوح" من إدارة ترامب، لإعادة تشكيل بنية الدولة على أسس يمينية دينية. ويتضمن مشروعه تمكين المتطرفين، وإعادة هيكلة القضاء والجيش، بل وربما تمرير إعفاء شامل لطلاب المعاهد الدينية من الخدمة العسكرية، ما يهدد التوازن العلماني التقليدي الذي شكّل لفترة طويلة جوهر البنية السياسية لدولة الاحتلال.

 

في مواجهة هذا المأزق المركّب، تمضي إسرائيل نحو خيار توغل محدود داخل غزة، عبر بقاء عسكري جزئي في نقاط استراتيجية، مع استمرار الحصار وتجفيف الموارد، دون إعلان احتلال رسمي أو ضم مباشر، تجنّبًا للتبعات القانونية والسياسية. وتستهدف هذه الاستراتيجية إنهاك غزة على المدى الطويل، عبر تعميق الأزمات المعيشية، وفرض نزوح قسري، وتأليب السكان على المقاومة. وتُستخدم التهديدات بالاجتياح الكامل كأداة حرب نفسية لدفع المدنيين نحو الهروب، ضمن سياسة قضم تدريجي تُخفي مشروعًا تفتيتيًا بعيد المدى.

 

لكن هذا التيه، رغم كونه مأزقًا استراتيجيًا، لا يُدفع ثمنه داخل أروقة المؤسسة الصهيونية فحسب، بل يدفعه الشعب الفلسطيني في غزة دمًا وجوعًا وخرابًا. فعلى مدى نحو عامين من الإبادة الممنهجة، دفع المدنيون ثمنًا باهظًا: أرواح الأطفال والنساء، تدمير المنازل والبنية التحتية، انهيار النظام الصحي، ودخول المجاعة رسميًا إلى أحياء محاصرة. إنها فاتورة إنسانية فادحة تُسدّد يوميًا تحت أعين العالم، في حرب عبثية بلا أفق، تُرتكب فيها فظائع ترتقي لجرائم حرب، تُغذيها هواجس سياسية مريضة. ومع ذلك، يواصل هذا الشعب المنهك صنع المعنى من بين الركام، ويقول: نحن هنا. باقون. لا تُمحى ذاكرتنا، ولا تُكسر إرادتنا.

 

وعلى الجهة الأخرى، لا تبدو غزة مجرد بقعة جغرافية محاصرة، بل رمزًا حيًا متقدًا للصمود والمعنى. فرغم المجاعة والدمار، ورغم محاولات الإبادة السياسية والاقتصادية، تزداد تماسكًا في الوعي الجمعي الفلسطيني. يتحول الألم إلى مقاومة، والجوع إلى إرادة، والموت إلى ميلاد جديد لفكرة لا تموت. ومع كل غارة، وكل خطاب تهديدي، تنكشف هشاشة المؤسسة الصهيونية التي تدّعي السيطرة، بينما تغرق في تناقضاتها، وتخوض حربًا بلا نهاية. وفي المقابل، يقف المقاتل الفلسطيني، وحيدًا، صلبًا، يعيد تعريف المعركة كصراع إرادات، لا صراع حدود.

أمام هذه الروح، تسقط حسابات القوة، وتتهاوى خطط الاحتلال، ويبقى السؤال معلقًا في وجه نتنياهو:

كيف تهزم من عشق الموت في سبيل الحياة؟

 

كل ما سبق يُرسّخ قراءة واضحة مفادها أن دولة الاحتلال، رغم تفوقها العسكري والاستخباراتي، دخلت مرحلة "تيه استراتيجي" عميق، يُشبه في جوهره التيه التاريخي الذي فُرض على بني إسرائيل عقابًا على رفض الحق. تعيش إسرائيل اليوم حيرة سياسية وعسكرية وأخلاقية خانقة، عاجزة عن الحسم، متخبطة بين اجتياح غزة أو الانسحاب منها، بين استمرار الحرب أو البحث عن سلام لا تملكه.
لكن هذا التيه الاستراتيجي يواجه مقاومة فلسطينية صلبة، وشعبًا أسطوريًا عظيمًا، يعيد صياغة معادلة الصراع، ويؤكد أن الأرض لمن يتمسك بها، وأن المستقبل لا يُصنع بالطغيان، بل بالإرادة.


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
التعليقات (0)