-
℃ 11 تركيا
-
2 أغسطس 2025
د. محمد إبراهيم المدهون يكتب: دولة ستولد في فلسطين لا في نيويورك
د. محمد إبراهيم المدهون يكتب: دولة ستولد في فلسطين لا في نيويورك
-
29 يوليو 2025, 1:48:39 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
على مدار سنواتٍ طويلة، ظلّ شعار "حلّ الدولتين" يُرفَع دون جدوى حقيقية، حتى تآكلت الثقة به لدى الفلسطينيين والمجتمع الدولي على حدٍّ سواء. وقد جاء مؤتمر "حلّ الدولتين"، الذي عُقد في نيويورك برعايةٍ مشتركة من فرنسا والمملكة العربية السعودية، كمحاولة باهتة؛ فعلى الرغم من العدد الكبير للدول المشاركة، غاب عنه الحضور الرئاسي، ولم يشهد تمثيلًا وزاريًا كافيًا على مستوى وزراء الخارجية، استجابةً لتهديدات الوعيد الصهيوأمريكي.
لقد فُرّغ مشروع إقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس من مضمونه، حيث تُرك الباب مفتوحًا أمام ضمّ أجزاء من الضفة الغربية ونزع السيادة عنها، مع الإبقاء على مجرد تسمية "دولة"، حتى لو جاءت تحت مسمى "الولايات المتحدة الفلسطينية"؛ كيان منزوع السلاح، لا يتعدى كونه حرس حدود لحماية الاحتلال، يخضع لوصاية تطبيعية لا تضمن الحد الأدنى من الاستقلال.
ويمثّل ذلك كله تراجعًا خطيرًا عن الهدف الأساسي المتمثل في إقامة دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة على حدود عام 1967. ورغم هذا التراجع، قوبل المؤتمر بمقاطعة أمريكية متعمّدة، وهجوم صهيوني عنيف، يُجسِّدان رفضًا صارخًا لأي حلٍّ يُقيِّد نفوذ الاحتلال أو يعترف بالحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية.
شهدنا في الآونة الأخيرة تزايدًا ملحوظًا في عدد الدول التي تعترف بدولة فلسطين، لا سيما من قبل دول أوروبية كبرى ذات ثقل سياسي ودبلوماسي على الساحة الدولية. ويعكس هذا التوجه إدراكًا متناميًا بأن القضية الفلسطينية لم تعد نزاعًا سياسيًا عابرًا، بل قضية تحرر وحقوق شعب أصيلة تستوجب الاعتراف الكامل بدولة فلسطينية ذات سيادة. ولا يمكن فصل هذه الاعترافات المتزايدة عن الدماء التي سالت والتضحيات الجسيمة التي قدّمها شعبنا، خاصة في غزة، التي تواجه محرقة مستمرة بصمود أسطوري. فهذه الاعترافات ليست مجرد مكاسب دبلوماسية، بل ثمرة نضال طويل، ودعوة صريحة لكل دول العالم للمساهمة في فرض واقع الدولة الفلسطينية من خلال الاعتراف الرسمي بها، دولة حقيقية لا شكلية.
تكشف هذه التطورات أن المحور الصهيوأمريكي يسعى لإعادة إنتاج النكبة، من خلال طرح كيان فلسطيني حتى لو بمسمى دولة منزوع الدولة والسيادة، بلا قدس ولا لاجئين، متزامن مع توسيع الاستيطان، وسياسات التهجير، وتحويل السلطة الفلسطينية إلى جهاز أمني بلا مشروع وطني. وفي المقابل، تتصاعد المقاومة في غزة والضفة، التي لم تعد مجرد رد فعل، بل أصبحت استراتيجية كفاحية متجددة، تعيد الاعتبار للقضية الفلسطينية في الوعي الشعبي والدول والضمير الإنساني الجمعي.
إن الدولة الفلسطينية الحقيقية لن تُمنح عبر مفاوضات مفصلة على مقاس الاحتلال، بل تُنتزع عبر برنامج وطني مقاوم، قائم على وحدة وطنية صلبة، وإصلاح ديمقراطي شامل للمؤسسات، واستراتيجية تحرر تنهي التبعية المالية والسياسية، وتعيد بناء الشرعية الفلسطينية. ويتطلب ذلك بناء مؤسسات دولة مقاومة تضمن السيادة الكاملة، تشمل الأبعاد السياسية، والأمنية، والاقتصادية، والثقافية، تدعمها دبلوماسية فلسطينية موحدة تستفيد من التحولات الدولية وتوسّع دائرة الاعتراف بفلسطين.
على شعبنا الفلسطيني أن يُدرك أن فلسطين لا تُبنى بالمفاوضات فقط، ولا بالتسويات المفروضة، بل بإرادة مقاومة مستمرة، ووحدة وطنية حقيقية تُقنع العالم بعدالة قضيتنا وحقنا المشروع في الحرية والسيادة. فالدولة القادمة ستولد في غزة، والضفة، والقدس، وفي قلوب اللاجئين، لا في قاعات المؤتمرات التي تُدار فيها مصالح القوى العظمى.
وفي ظل هذا الواقع، تبقى الحاجة ملحة إلى مشروع تحرري شامل، يعيد الاعتبار للهوية الوطنية، ويصون الحقوق الفلسطينية، ويُسهم في إنهاء الاحتلال الذي يسعى إلى طمسها. فالدولة الفلسطينية ليست منحة، بل حق تاريخي يُنتزع بالمقاومة، والوحدة، والإرادة.

.jpg)







