-
℃ 11 تركيا
-
5 أغسطس 2025
د. رعد هادي جبارة يكتب: "وربك فكبر".. من النداء إلى الانطلاق الثوري
خصوصية المفردة القرآنية 33
د. رعد هادي جبارة يكتب: "وربك فكبر".. من النداء إلى الانطلاق الثوري
-
5 أغسطس 2025, 3:17:51 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
﷽
﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ١ قُمْ فَأَنذِرْ ٢ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ٣﴾
[المدّثر: 1-3]
تمهيد
-تأمّلات حركية في سورة المدّثّر
منذ اللحظة الأولى التي انطلقت فيها آيات سورة المدّثّر، تتجلّى ملامح النداء الحركي الذي يُوقظ الغافل، و يبعث الراقد، ويفتح أبواب التغيير. إنها دعوة للنهوض من غفلة الذات إلى مسؤولية الأمة، من النوم إلى القيام، ومن الانكفاء إلى المواجهة. وتتوسط هذا النداء آية مركزية حملت مضمونًا عميقًا:
"وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ"
إنها أكثر من تكبير صوتي، إنها إعلان للانفكاك عن كل طاغوت، و بداية لمسيرة تحرر شاملة.
1. من “المدّثّر” إلى “المنذر”
في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ﴾ نجد نداءً ربانيًا يوقظ النبي ۞ ﷺ وآله ۞ من لحظة التأمّل و التدثر إلى ساحة البلاغ و الإنذار. والكلمة ليست حصرًا على شخص النبي۞ﷺ وآله۞ بل تُخاطب كلّ من يغشاه الكسل أو التراخي في زمن تتطلب فيه المرحلة القيام[1].
ثم يأتي الأمر: "قُمْ" و القيام هنا أوسع من الوقوف الجسدي؛ إنه القيام الرسالي، النهضة، مواجهة الواقع، كسر الجمود[2].
2.فأنذر: الإنذار وظيفة التغيير
"فَأَنذِرْ" أي قم بدور التحذير، لا فقط تبشير الأفراد، بل إنذار المجتمعات من مغبّة الباطل، والعدو من عاقبة التجبّر. الإنذار هنا جزء من المشروع التغييري الذي لا يرضى بالواقع الفاسد، بل يصارعه.
3. ولباسك فطهّر: طهارة المشروع، لا فقط الثياب
إن الطهارة المطلوبة في الآية: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ ليست مقتصرة على نظافة الملبس، بل تشير إلى طهارة الموقف، ونقاء الوسيلة، وصفاء الغاية[3].
وتشمل تطهير المجتمع من الظواهر الدخيلة، والمال الحرام، والتبعية الثقافية.
4.وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ: صيحة التحرر الكوني
تتوج الآيات بنداء التكبير: "وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ"
إنها ليست فقط تكبيرة الإحرام في الصلاة، بل شعار لتحطيم الطاغوت، وردّ الاعتبار للربوبية المطلقة لله.
التكبير هو: تحجيم كل كبير سوى اللهﷻ، وتقزيم كل متجبر، ورفض الخضوع لكل مظاهر الاستكبار[4].
إن “الله أكبر” ليست شعارًا صوتيًا، بل إعلان حرب على كلّ ما يُراد به إذلال الإنسان، وصيغة استنهاض للأمة نحو العزة.
5. التكبير في مسار الثورات الإسلامية
لم يكن عبثًا أن تتردد عبارة “الله أكبر” في وجدان الثورات الإسلامية المعاصرة، منها:
نشيد الشاعر المصري عبد الله شمس الدين إبان العدوان الثلاثي 1956، الذي يقول فيه:
الله أكبر فوق كيد المعتدي
والله للمظلوم خير مؤيد[5]
ونشيد الشاعر خليل عجمي خلال الثورة الإيرانية 1979:
نحن بركان تفجر
هاتفاً: الله أكبر[6]
كلها صيحات استلهمت روحية التكبير في سورة المدثر، كرمز للنهضة و التحرير.
6.أبعاد لغوية وروحية:
تعريف التكبير لغويًا:
التكبير: التعظيم.
يُقال: كبّر الشيء، أي عظّمه. وأصل الكِبَر: العَظَمة، وضده الصِّغر[7].
ويُطلق "الله أكبر" للإخبار بأن الله ﷻ أعظم من كل شيء، وهو من أرفع مراتب التعبد القلبي واللساني.
مراتب التكبير
1. التكبير اللفظي: قول "الله أكبر"، مقيدًا كالصلاة، أو مطلقًا كالذكر.
2. التكبير بالعمل: بطاعة ﷲ ﷻ ورفض الانصياع للطاغوت.
3. التكبير العقدي: بتعظيم اللهﷻ في أسمائه وصفاته، و أحكامه الشرعية و القدرية[8].
7. قراءة شاملة
حتى من حيث البنية البصرية للآية (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ)، يمكن قراءتها بنفس الترتيب من اليمين واليسار (كحروف) وكأنها دعوة للمسلمين في الشرق و الغرب للالتزام بمضمونها. فكما التكبير يعلو في المآذن، ينبغي له أن يعلو في السلوك والمواقف.
خاتمة
إننا حين نقرأ ﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾ في ضوء سياق سورة المدّثّر، نكتشف أنها ليست مجرّد أمر تعبّدي، بل نقطة انطلاق لتحرُّر الإنسان من كل ما يُصغّره، سواء كان هوى أو طغيانًا أو هيمنة.
إنها آية نهضة لا تهدأ، و تكبير لا يخبو، ومواجهة لا تنكسر.
هي بداية المشروع، و عنوان الانتصار:
"الله أكبر"وليس سواه.
المراجع والهوامش:
[1]: ابن عاشور، التحرير والتنوير، تفسير سورة المدثر.
[2]: سيد قطب، في ظلال القرآن، دار الشروق، ج6، ص3500.
[3]: الطبري، جامع البيان، تفسير الآية (وثيابك فطهر).
[4]: الشعراوي، خواطر حول القرآن الكريم، سورة المدثر.
[5]: نشيد "الله أكبر"، عبد الله شمس الدين، الأرشيف القومي المصري، 1956.
[6]: نشيد "الله أكبر"، خليل عجمي، تسجيلات الثورة الإيرانية 1979.
[7]: ابن فارس، مقاييس اللغة، مادة "كبر".
[8]: جمهرة المصطلحات الشرعية، مادة "التكبير".










