د. محمد إبراهيم المدهون يكتب: كيف نفهم ضجيج "هدنة إنسانية"؟

profile
د. محمد إبراهيم المدهون كاتب ووزير فلسطيني سابق
  • clock 27 يوليو 2025, 8:03:57 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

تكشّف المجاعة بأجساد الأطفال الهزيلة، والرضع المحرومين من الحليب، والنساء المُجهضات في الطرقات، والمسنين الذين يموتون بصمت. 

 

أكثر من 100 ألف طفل مهددون بالموت المباشر، في ظل فوضى توزيع المساعدات وغياب الحماية، وسط صمت دولي مخزٍ وتواطؤ إقليمي فاضح. لم تعد المجاعة نتيجة عرضية للحرب، بل تحوّلت إلى سلاح إبادة ممنهجة تُدار بتخطيط صهيوأمريكي استراتيجي، ضمن سياسة هندسة التجويع. 

هدفها ليس فقط إفراغ القطاع من سكانه، وأيضا ابتزازهم سياسيًا، خصوصًا في ملف صفقة الأسرى، دون أدنى نية لوقف المحرقة.


الآلاف سقطوا شهداء وهم يركضون خلف هذه المساعدات. انهيار البنية الصحية، انعدام الصرف الصحي، وغياب الخصوصية والكرامة في الخيام، حولوا الحياة اليومية إلى جحيم منظم.
إنها هندسة التجويع والإنسان كمتوحش وصولاً إلى تفكيك المقاومة بعد هزيمة الاحتلال في الميدان. شعب مجوع ومتعب، ودور عربي مكمل لمشهد المخلص، وسردية إعلامية تغسل يد عصابات الإبادة من عار محرقة غزة الذي لوث وجه الإنسانية. 


في سياق المشهد الدموي، أعلنت سلطات الاحتلال عن "هدنة إنسانية" شملت إنزالات مظلية للمساعدات وتحويل إمدادات مخزنة في العريش إلى القطاع. لكنها لم تكن مبادرة إنسانية نابعة من ضمير، بل تراجع اضطراري تحت ضغط سياسي وأخلاقي متزايد، فرضه تصاعد الغضب الشعبي الدولي وتغيّر مزاج بعض العواصم الغربية.


الاحتلال ليس الجاني الوحيد، فمجلس الأمن بصمته، والمنظومة العربية بتخاذلها، والعواصم الغربية بتواطؤها، كلها تشارك في الجريمة. حيث معبر رفح أحد أذرع الحصار بإغلاقه ومنعه إدخال المياه والخبز، فضلًا عن حظر قوافل الإغاثة مثل "الصمود"، والتواطؤ مع مهاجمة سفن الحرية كـ"مادلين" و"حنظلة". وقد فجّر هذا الموقف غضبًا عالميًا تُرجم في حملات فردية متصاعدة لإغلاق السفارات المصرية في عدة عواصم.


شعب غزة لم يواجه القتل والجوع بالخنوع، بل بالمقاومة. رفضوا الرضوخ، وفضحوا الممرات الإنسانية الزائفة التي تُستخدم كغطاء لتهجير قسري جماعي. وفي قلب هذه المعاناة، برزت مبادرات مقاومة مدنية كتعزيز الزراعة المنزلية، دعم المنتج المحلي، تشكيل لجان توزيع عادلة للمساعدات، وإنشاء لجان طوارئ تحمي الشاحنات وتعمل خارج الاستقطاب السياسي.


وفي الخارج، لم تعد الشعوب تكتفي بالدعاء. إغلاق الشاب أنس حبيب لسفارة بلاده، وهتاف إبراهيم شديفات من قلب عمان، لم يكونا مجرد مواقف فردية، بل مؤشرات على يقظة شعبية عابرة للحدود تُحرج الأنظمة، وتفتح المعابر، وتربك حسابات الاحتلال.


تتوقع مراكز التفكير في أمريكا سقوط النظام المصري أو الأردني والذي لا يعني فقط وقف المحرقة، بل يمثل تهديدًا وجوديًا لبقاء الاحتلال نفسه. أسوأ سيناريو بالنسبة لهم هو طوفان بشري من مصر نحو غزة، أو من الأردن نحو الضفة، يحوّل الحصار إلى عبور، والموت إلى انتفاضة، ويكسر الجدار من الجهة الأضعف فيه.


"الهدنة الإنسانية" ليست سوى محاولة للالتفاف على الفضيحة الأخلاقية الكبرى التي فجّرتها المجاعة المصنّعة. إنها إدارة مؤقتة لأزمة فشلت أدوات الإبادة والتضليل في حسمها. فالمساعدات الشحيحة تُسقط فوق مناطق مدمرة بلا ضمانات فوق الخيام الممزقة في مشهد استعراضي يصحبه ضجيج إعلامي لغسل اليد من الدماء وتنظيف الشرف من عار التواطؤ، تحت إشراف شركات أمنية صهيوأمريكية، وفي إطار منظومة تُسلم الغذاء مشروطًا بالرضوخ.


ما يُسوّق على أنه "هدنة إنسانية" ليس سوى تراجع اضطراري عن سياسة فشلت في كسر غزة. الاحتلال يخسر معركة الرواية، معركة الأخلاق، ويترنّح في معركة السيطرة. غزة لا تجوع، بل تُجَوّع عمدًا. لا تموت، بل تُقتل بقصد. والمجاعة فيها ليست كارثة طبيعية، بل قرار سياسي واعٍ.


والردّ على هذا القرار لا يكون بالشفقة ولا بالبيانات، بل بالتحرك:
بالمقاطعة، بالهتاف، بإغلاق السفارات، وبصناعة معابر من الضمير…
لأن غزة لا تنتظر الطعام فقط، بل تنتظر أن تطفأ نار المحرقة ويسقط الجدار.

 

التعليقات (0)