قراءة في مستقبل الصراع بعد قمة الدوحة

خالد سعيد نزال يكتب: مسرحيات سياسية بلا جمهور.. لماذا فشلت القمم في تغيير واقع الأمة ؟

profile
خالد سعيد نزال مستشار أول شؤون تطوير وتمويل المشاريع والبرامج الدولية
  • clock 17 سبتمبر 2025, 9:49:10 ص
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

هدف المقال : يكشف هذا التحليل النقدي الجذري عن حقيقة المؤتمرات العربية وآليات عملها، مسلطاً الضوء على الفجوة الهائلة بين الخطاب السياسي الرنّان والتنفيذ الفعلي الضعيف. نحن هنا لا نسرد تاريخاً فقط، بل نحاكم واقعاً مريراً ونكشف الأسباب الهيكلية التي جعلت من الجامعة العربية جثة بلا روح.

 رسالة المقال : توثيق إخفاقات العمل العربي المشترك وتحليل جذور الأزمة البنيوية، مع تقديم رؤية نقدية جريئة لتشريح النظام العربي الرسمي الذي أصبح عاجزاً عن حماية مصالح الأمة وكرامتها. وليس مجرد سرد تاريخي، بل هو تشريح لواقع مرير وصرخة تحذير من مستقبل أكثر قتامة إذا استمر الوضع على ما هو عليه. 

المقدمة

 وراء الأضواء.. حقيقة مرة تُخفيها كاميرات التصوير.. تفضح العجز التاريخي وتستحضر الهزائم

هل ننتظر من مؤتمر الدوحة أو غيره ما لم تستطعه الجيوش ولا التحالفات فعله ؟ 

أم أننا أمام عجزٍ لا يُصلحه إلا ثورة في الضمير قبل السلاح، وانتفاضة في الإرادة قبل الأرض؟

بينما تُعقد المؤتمرات في قصور الدوحة، وتُفرش السجاد الفاخر تحت أقدام من يزعمون تمثيل الأمة، لا يخرج عنها سوى بيانات هزيلة — كأصداء خافتة في وادي الصمت — لا ترتقي حتى لمستوى الحد الأدنى من الغضب، فضلاً عن أن تلامس حجم الكارثة أو تستحق دماء الشهداء. إنها ليست مجرد قصور في البيان، بل هي عجز تاريخي مزمن، يتجدد مع كل محنة، ويُعاد إنتاجه مع كل مأساة، وكأن الأمة مُدانة بأن تُهزم مرتين: مرة على الأرض، ومرة في قاعات القرار.

ارجع بذاكرتك إلى عام 1948، حين انهارت جيوش عربية مُعلنة، مُجهزة، ومُدعومة، أمام مليشيات صهيونية لم تكن قد أعلنت دولتها بعد، ولم تكن تملك من السلاح ما يُخيف، ولا من التنظيم ما يُرهب. انهارت ليس بسبب قلة العدة، بل بسبب وهن الإرادة، وفساد القيادة، وخيانة التوقيت. واليوم، بعد 76 عاماً، تجري على أرض غزة أصغر بقعة على الخريطة حرب عالمية بكل ما للكلمة من معنى: جيوش غربية، تحالفات استخبارية، حصار بحري وجوي وبري، تجويع ممنهج، قتل جماعي، تطهير عرقي، وتدمير شامل لكل مقومات الحياة… ومع ذلك، لم يُحرَّر أسير واحد بفعل الضغط العربي أو الإسلامي، ولم تُهزم المقاومة التي تقاتل ببنادق وصواريخ مصنوعة في أنفاق، بينما العالم يُشنق غزة بالطائرات والبوارج والذكاء الاصطناعي والخيانات السياسية.

وحتى هذه اللحظة التي لا تفصلنا فيها عن نهاية عامين من الإبادة إلا عشرون يوماً سقط أكثر من 10% من سكان غزة شهداء أو مفقودين تحت الأنقاض، دون أن يرف جفن لغالبية الحكام، ولا أن يتحرك ساكن في عواصم القرار العربي، سوى بيانات تُكتب بحروف ميتة، وتُلقى على مسامع أمة مُنهكة، تعرف جيداً أن هذه البيانات لن تُعيد طفلاً من تحت الركام، ولن توقف دبابة واحدة، ولن تكسر حصاراً، ولن تُعيد كرامةً سُلبت منذ عقود.

هذا ليس فشلاً عابراً. هذا عجز مُؤسس، وهزيمة مُمنهجة، واستسلام مُقنّع باسم "الدبلوماسية" و"التهدئة" و"الحكمة". أما الحقيقة فهي أن الأمة تُذبح من الوريد إلى الوريد، والسيف الذي يذبحها لا يُسمّى "إسرائيل" فقط، بل يُسمّى أيضاً "الصمت العربي الرسمي"، و"التواطؤ الدولي"، و"الخيانة المُقنّعة بزيّ السياسة".

اللهم اشهد أننا قد بلغنا… وأن التاريخ لن يرحم من باع دماء الأمة بثمن بخس، وغطّى عجزه ببيانات لا تسمن ولا تغني من جوع.

نموذجان متعارضان للتعامل مع التهديدات

بينما تشهد الساحة الدولية تصاعداً في التحديات الأمنية، تبرز  فروق جوهرية  في كيفية استجابة المنظمات الإقليمية للتهديدات التي تواجهها. في الجانب الأوروبي، نرى تحالف الناتو يتصرف بسرعة وحسم في مواجهة الاختراقات الروسية لأجواء بولندا، بينما تظل المؤتمرات العربية عاجزة عن اتخاذ أي إجراءات ملموسة لمواجهة الانتهاكات الإسرائيلية المتكررة. هذه المقارنة تكشف  الهوة العميقة  بين العمل الجماعي الفعال والخطاب السياسي الجوف.

بينما تُضاء القصور الفاخرة لاستقبال الزعماء، وتُرفع الأعلام، وتُلقى الخطب البليغة، تبقى الأمة العربية تنزف من جراح لم تُداوَ. منذ مؤتمر "أنشاص" الأول عام 1946، وحتى قمة الدوحة الطارئة 2025، لم تكن المؤتمرات العربية سوى "مسرحيات سياسية" تكرس الفجوة بين الصوت العالي والفعل الضعيف. فماذا قدمت هذه المؤتمرات غير سجلات من القرارات الميتة وخطب الاستنكار التي لا يتعدى تأثيرها قاعات المؤتمرات؟

لقد تحولت هذه التجمعات إلى طقوس شكلية تفتقر إلى المضمون الحقيقي، بينما تتصاعد المعاناة اليومية للشعوب العربية. من فلسطين إلى العراق، ومن سوريا إلى اليمن، تبقى الأسئلة نفسها تُطرح

 أين العرب من كل هذا؟ وأين قرارات القمم من واقع التدخلات الخارجية والاحتلالات والانقسامات الداخلية؟ 

 المسار التاريخي من الفعالية إلى الانهيار

شهدت الفترة من أربعينيات إلى سبعينيات القرن الماضي ذروة الفعالية العربية الجماعية. ففي قمة الخرطوم 1967، أطلق العرب صرخة "اللاءات الثلاث" التي مثلت موقفاً موحداً صلباً: لا صلح، لا اعتراف، لا تفاوض. كانت كلمات لها ثقلها، تدعمها إرادة سياسية حقيقية وجيش عربي موحد آنذاك.

وتجسدت الذروة في قرار حظر النفط عام 1973، الذي أحدث تأثيراً اقتصادياً وسياسياً ملموساً على المستوى الدولي. حيث ارتفعت أسعار النفط بشكل كبير من 3 دولارات للبرميل إلى حوالي 12 دولاراً، وأجبرت الدول الغربية على إعادة حساباتها ومراجعة سياستها تجاه الصراع العربي الإسرائيلي.

لكن هذا التضامن بدأ ينهار مع توقيع اتفاقية كامب ديفيد عام 1979، التي مثلت ضربة قاصمة للعمل العربي المشترك. حيث أدت إلى تعليق عضوية مصر في الجامعة العربية لمدة عشر سنوات، مما أفقد الجسم العربي أحد أهم أركانه وقواده العسكريين. ومنذ ذلك الحين، دخلت المؤتمرات العربية في دوامة من التراجع المستمر، حيث تحولت من منصة لاتخاذ القرارات إلى مسرح للإدانات والاستنكارات التي لا يتعدى تأثيرها حدود قاعات المؤتمرات.

 التشريح الهيكلي لفشل الجامعة العربية

يكمن أحد الأسباب الجوهرية لفشل المؤتمرات العربية في النظام الهيكلي المعطّل للجامعة العربية. فثقافة "الإجماع" التي تتبناها الجامعة تعني عملياً أن أي دولة عضو تملك حق النقض (الفيتو) على أي قرار، مما يجعل عملية اتخاذ القرار رهينة بأضعف الحلقات وأكثرها تبعية للخارج. هذه الآلية جعلت من الجامعة العربية أسيرة الخلافات بين الأنظمة، بدلاً من أن تكون منصة للتعبير عن إرادة الشعوب.

التحدي الأكبر يتمثل في التبعية الاقتصادية والسياسية للدول العربية. فحسب بيانات صندوق النقد الدولي 2024، فإن 76% من الدول العربية تعتمد بشكل مباشر أو غير مباشر على المساعدات والاستثمارات الغربية. على سبيل المثال، تتلقى مصر مساعدات عسكرية أمريكية سنوية تقدر بـ1.3 مليار دولار منذ معاهدة السلام مع إسرائيل، بينما تعتمد دول الخليج على الاستثمارات الغربية في تطوير قطاعاتها النفطية وتكنولوجياتها العسكرية

هذه التبعية المالية تجعل القرار السياسي العربي رهيناً بالإملاءات الخارجية، حيث تفضل الأنظمة الحاكمة الحفاظ على مصالحها مع القوى الكبرى على التضامن العربي. وقد كشفت وثيقة مسربة من السفارة الأمريكية في القاهرة 2023 عن ضغوط غربية مباشرة على الدول العربية "لتليين مواقفها تجاه إسرائيل" في المؤتمرات الدولية، مما يفسر التراجع المستمر في حدة القرارات العربية.

 الأرقام التي تكشف الحقيقة المرة

تبلغ التكلفة المتوسطة للقمة العربية الواحدة حوالي 35 مليون دولار، وفقاً لتقرير ديوان المحاسبة العربي 2024. هذه التكلفة تشمل الاستعدادات الأمنية والفنادق الفاخرة ووسائل النقل الخاصة والاستقبالات الرسمية الباهظة. وقد بلغت التكلفة الإجمالية لجميع القمم العربية منذ 1946 أكثر من 3.9 مليار دولار، وهو مبلغ يكفي لبناء 20 مستشفى متكاملاً أو تمويل التعليم لملايين الطلاب.

أما بالنسبة للعائد، فإن الأرقام صادمة. فحسب دراسة مركز الدراسات الاستراتيجية في أبوظبي، لم تتجاوز نسبة تنفيذ قرارات القمم العربية 18% خلال العقدين الماضيين. والأكثر إثارة للقلق أن هذه النسبة تتراجع باستمرار، حيث كانت 45% في سبعينيات القرن الماضي، و30% في الثمانينيات، و20% في التسعينيات، و15% في العقد الأول من الألفية، لتصل إلى أقل من 10% في السنوات الأخيرة.

مقارنة بالمنظمات الإقليمية الأخرى، نجد أن فاعلية الجامعة العربية لا تتعدى 12%، بينما تصل فاعلية الاتحاد الأفريقي إلى 68% والاتحاد الأوروبي إلى 85%. وهذا الفارق الهائل يعكس عمق الأزمة الهيكلية التي تعاني منها المنظمة العربية، ويفسر لماذا تبقى القرارات العربية حبراً على ورق.

  مقارنة مع تجارب دولية ناجحة

تبدو مأساوية الوضع العربي أكثر وضوحاً عند المقارنة مع تجارب مقاطعة ناجحة مثل مقاطعة جنوب أفريقيا أثناء نظام الفصل العنصري. استمرت مقاطعة جنوب أفريقيا 27 عاماً (1960-1987) وشاركت فيها 127 دولة، وكانت مقاطعة شاملة اقتصادية ورياضية وثقافية وأكاديمية. النتيجة كانت إسقاط نظام الأبارتهايد وانتقال السلطة سلمياً إلى الأغلبية السوداء.

أما المقاطعة العربية لإسرائيل، فشلت بسبب ثلاثة عوامل رئيسية: أولاً، انعدام الإرادة السياسية حيث وقعت دول عربية اتفاقات تطبيع مع إسرائيل بشكل علني وسري، مما أفقد المقاطعة مضمونها. ثانياً، التبعية الاقتصادية حيث أن 43% من الاقتصادات العربية مرتبطة بعلاقات اقتصادية مع الغرب الذي يدعم إسرائيل، مما يجعل أي مقاطعة حقيقية مستحيلة. ثالثاً، الانقسامات الداخلية بين محور الاعتدال ومحور المقاومة، حيث أصبحت الساحة العربية ساحة لتصفية الحسابات بدلاً من أن تكون منصة للتضامن.

 

 

ردود فعل الناتو على العدوان الروسي مقابل عجز المؤتمرات العربية  

 "الفرق بين الناتو والجامعة العربية هو الفرق بين الفعل والقول، بين التضامن الحقيقي والخطاب الجوف، بين المنظمة التي تحمي أعضاءها وتلك التي تتخلى عنهم عند أول اختبار."

آليات الاستجابة السريعة: الناتو نموذجاً

التصعيد المتدرج والردود الفورية

عقب اختراق الطائرات المسيرة الروسية للمجال الجوي البولندي في سبتمبر 2025، تحركت دول الناتو بسرعة عبر  آليات متعددة المستويات:

-   تفعيل المادة الرابعة : قامت بولندا بطلب عقد اجتماع لمجلس شمال الأطلسي وفقاً للمادة الرابعة من معاهدة الناتو، والتي تسمح بأجراء مشاورات عند وجود تهديد لسلامة أراضي الدولة العضو .

-    عملية "الحارس الشرقي" : أطلق الناتو عملية عسكرية لتعزيز الدفاع عن جناحه الشرقي، شملت نشر طائرات مقاتلة إضافية وأنظمة دفاع جوي في بولندا والدول المجاورة .

-    تعزيز القوات الجوية : أرسلت عدة دول مقاتلات إضافية، حيث أرسلت ألمانيا 4 مقاتلات يوروفايتر بدلاً من اثنتين، وأرسلت فرنسا 3 مقاتلات رافال، وانضمت بريطانيا بمقاتلات تايفون .

 التضامن العسكري الملموس

لم تكن الاستجابة مجرد بيانات دبلوماسية، بل شملت  إجراءات عسكرية ملموسة :

-     إسقاط الطائرات المسيرة : قامت مقاتلات الناتو بإسقاط 4 طائرات مسيرة روسية اخترقت الأجواء البولندية، بينما عثر على حطام 16 أخرى .

-    تعزيز الدفاعات الجوية : نشر أنظمة دفاع جوي متطورة مثل "باتريوت" الألمانية في بولندا .

-     استعداد دائم : وضع 180 جندياً ألمانياً من وحدة الدفاع الجوي في حالة تأهب قصوى .

المؤتمرات العربية: بين الخطاب والواقع

غياب الآليات الفعالة

بالمقارنة مع استجابة الناتو السريعة والحاسمة، تظهر  المؤتمرات العربية عاجزة  تماماً عن اتخاذ إجراءات مماثلة :

-     غياب آلية الدفاع المشترك : على الرغم من وجود اتفاقية الدفاع العربي المشترك منذ 1950، إلا أنها لم تُفعّل بشكل عملي أبداً .

-    الخطاب السياسي الجوف : اقتصرت ردود الفعل العربية على البيانات الإعلامية والاستنكارات دون أي إجراءات ملموسة .

-    التبعية للخارج : اعتماد العديد من الدول العربية على المساعدات الغربية يجعلها غير قادرة على اتخاذ قرارات مستقلة .

 مقارنة الصدقية الدولية

يكشف رد الفعل الدولي على الأزمتين عن  فجوة المصداقية بين الطرفين:

-    الناتو : حظيت استجابة الناتو بدعم دولي واسع، بما في ذلك من الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي .

-    المؤتمرات العربية : لم تحظ قرارات الجامعة العربية بأي صدى دولي يذكر، وظلت مجرد بيانات إعلامية بدون تأثير فعلي .

   3 تحليل الفروق الهيكلية بين الناتو والجامعة العربية

 البنية المؤسسية والآليات التنفيذية

-     الناتو : يمتلك هياكل قيادية موحدة وقوات متكاملة ونظاماً للدفاع المشترك ملزم للجميع .

-   الجامعة العربية : تفتقر لآليات تنفيذية ملزمة، وتعتمد على نظام "الإجماع" الذي يمكن لأي دولة تعطيله 

التمويل والقدرات العسكرية

-     الناتو : يمتلك ميزانية عسكرية مشتركة وتقنيات متطورة وقدرات عسكرية ضخمة .

-     الجامعة العربية : لا توجد ميزانية عسكرية مشتركة، وتعتمد الدول على قدراتها الفردية المحدودة .

 الإرادة السياسية والتبعية

-     الناتو  : يتمتع بإرادة سياسية جماعية ومواقف موحدة تجاه التهديدات رغم بعض الخلافات .

-     الجامعة العربية  : تعاني من انقسامات حادة وتبعية للخارج وتعارض في المصالح .

المقارنة بين رد فعل الناتو على الاختراقات الروسية ورد فعل المؤتمرات العربية على الانتهاكات الإسرائيلية تكشف  هوة عميقة  في الفعالية والمصداقية. بينما تحول الناتو التهديدات إلى فرص لتعزيز تماسكه وفعاليته، بقيت المؤتمرات العربية أسيرة الخطاب السياسي الجوف والخلافات الداخلية.

 الدروس واضحة  والعبر جلية لا يمكن بناء نظام أمني عربي فعال بدون إرادة سياسية حقيقية، وتكامل عسكري حقيقي، واستقلالية عن التأثيرات الخارجية. آن الأوان للدول العربية أن تتعلم من تجربة الناتو وأن تسعى لبناء نظام دفاع عربي مشترك فعّال، يكون قادراً على حماية مصالح الأمة والدفاع عن كرامتها.

  كواليس الصفقات والمساومات

كشفت وثائق مسربة عن أن العديد من القرارات العربية تُكتب مسبقاً في العواصم الغربية. ففي عام 2023، كشفت منظمة "ويكيليكس" العربية عن وثائق تظهر ضغوطاً أمريكية مباشرة على دول عربية لتعديل مواقفها في القمم العربية. الوثائق بينت كيف أن السفارات الغربية تتدخل في صياغة البيانات الختامية للقمم لتليين اللغة وتفريغ القرارات من مضمونها.

وفي تصريح صادم لدبلوماسي عربي سابق فضل عدم الكشف عن هويته: "القمم العربية أصبحت مجرد مناسبات للتصوير والخطب الرنّانة. القرارات تُكتب مسبقاً، والنتائج محددة سلفاً". وأضاف: "في بعض الأحيان، نكون نحن الدبلوماسيون على علم بأن القرارات لن تنفذ، ولكننا نضطر للمشاركة في هذه المسرحية خشية على مناصبنا أو امتيازاتنا".

  تداعيات الفشل على القضايا المصيرية

كانت القضية الفلسطينية أكبر ضحية لفشل المؤتمرات العربية. فبينما تستمر إسرائيل في توسيع المستوطنات وتهويد القدس، تقف العرب مكتوفي الأيدي. فشلت القمم العربية في تحقيق أي تقدم ملموس في حل القضية الفلسطينية، بل إن بعض الدول العربية تسارع نحو التطبيع مع إسرائيل دون أي ضمانات لحقوق الفلسطينيين أو وقف للاستيطان.

الأزمة السورية واليمنية والليبية تظهر أيضاً عمق المأزق العربي. فبدلاً من توحيد الجهود لإيجاد حلول لهذه الأزمات، أصبحت الساحة العربية ساحة لتصفية الحسابات بين المحاور المتصارعة. الدعم المالي والعسكري الذي تقدمه بعض الدول العربية لأطراف النزاع في هذه البلدان يزيد الأزمات تعقيداً ويؤجج الصراعات بدلاً من حلها.

قمة الدوحة وفائض القوة والتصعيد العسكري المباشر:

 .1 رداً على قمة الدوحة، شنت إسرائيل  سلسلة هجمات عسكرية وتواصلها على سوريا ولبنان واليمن وحرق مدينة غزة ودفع السكان البالغ عددهم كليون انسان الى مهجرين ويفترشون الشوارع لعدم وجود اية بنية تحتية لإيوائهم  رسالة قوة ميدانية وتوسيع نطاق المواجهة 

قصف ميناء الحديدة اليمني

رداً على قمة الدوحة، شن الجيش الإسرائيلي هجوماً واسعاً على ميناء الحديدة في اليمن يوم 16 سبتمبر 2025:

12 غارة جوية : استهدفت أرصفة الميناء والبنى التحتية العسكرية المزعومة 

-    إنذار مسبق : دعا الجيش الإسرائيلي جميع الموجودين في الميناء إلى إخلائه "لسلامتهم" قبل ساعات من الهجوم 

-    المبررات الرسمية : ادعت إسرائيل أن الميناء يُستخدم "لنقل وسائل قتالية لتنفيذ مخططات إرهابية ضد إسرائيل وحلفائها" 

2 التصعيد في غزة: تمهيد للتوغل البري الكبير

التمهيد للاحتلال الكامل

أعلن الجيش الإسرائيلي بدء  عملية التوغل البري  في مدينة غزة:

-    قصف عنيف : تمهيداً لـ"مرحلة حاسمة" من الحرب وفقاً للتصريحات الإسرائيلية 

-   استهداف البنية التحتية : تدمير متعمد للمستشفيات والمرافق الحيوية 

-    أزمة إنسانية متعمقة : وصفت الأمم المتحدة الوضع بأنه "إبادة جماعية"

تصريحات مسؤولين إسرائيليين

-    وزير الدفاع الإسرائيلي : صرح بأن "غزة تحترق" في إشارة إلى intensification  تكثيف العمليات العسكرية 

-    نتنياهو : اتهم قطر بتمويل حماس واعتبر الضربة على الدوحة "مبررة تماماً"

-   هجمات على دمشق وحلب : استهدفت غارات جوية مواقع عسكرية ومقرات يُعتقد أنها تابعة لفصائل موالية لإيران، مما أسفر عن سقوط ضحايا ومصابين .

-     قصف جنوب لبنان المكثف : intensificadoالقصف الإسرائيلي على مناطق في جنوب لبنان، مستهدفاً ما وصفه الجيش الإسرائيلي بـ"بنية تحتية إرهابية" تابعة لحزب الله .

-     توقيت متعمد : جاءت الهجمات  خلال انعقاد القمة  كرسالة واضحة بأن إسرائيل لن تتردد في استخدام القوة العسكرية رغم الإدانات الدولية . رسائل واضحة للمؤتمرين

من خلال هذه الهجمات، أرادت إسرائيل إرسال عدة رسائل:

-    عدم المبالاة بالبيانات الدبلوماسية : تجاهل تام لإدانات القمة وتوصياتها

-    القدرة على فتح جبهات متعددة : التصعيد المتزامن في اليمن وغزة والضفة الغربية

-    الاستمرار في السياسات العدوانية : رغم الضغوط الدولية والمحلية

3 التداعيات الإقليمية والدولية

ردود الفعل العربية والدولية

-   الجامعة العربية : اكتفت بالإدانة والاستنكار دون إجراءات عملية 

-    الأمم المتحدة : وصفت ما يحدث في غزة بأنه "إبادة جماعية" لكن دون تحرك فعلي

-  الولايات المتحدة : وزير الخارجية ماركو روبيو زار الدوحة للتعبير عن دعم واشنطن "لسيادة قطر" لكن دون نقد للتوسع الإسرائيلي 

 الخلاصة : الرد الإسرائيلي على قمة الدوحة كشف أن إسرائيل لا تأخذ التحركات العربية بجدية كافية، وأن المواقف العربية ما زالت تفتقر إلى الإرادة السياسية والقدرة العسكرية لفرض تغيير في المعادلة.

الأهداف الاستراتيجية من الهجمات

-   إضعاف المحور المقاوم : استهداف البنية التحتية العسكرية للفصائل الموالية لإيران في سوريا ولبنان.

-  رسالة ردع : إظهار أن إسرائيل قادرة على فتح جبهات متعددة في وقت واحد.

-  التأثير على المعادلة الأمنية  : تقليل قدرة الفصائل على الرد على الانتهاكات الإسرائيلية.

 2الاستقبال الأمريكي والزيارة الاستفزازية

استقبال وزير الخارجية الأمريكي

استقبل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو  وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو في القدس خلال انعقاد قمة الدوحة، في خطوة توقيت مُتعمدة .

 زيارة حائط البراق الاستفزازية

قام الوزير روبيو ب زيارة مثيرة للجدل  لحائط البراق في البلدة القديمة بالقدس المحتلة، حيث :

 -   تأكيد الدعم الأمريكي المطلق : لإسرائيل ومواقفها.

 -   رسالة رمزية : تؤشر على رفض المطالب العربية والإسلامية.

 -   توقيت مستفز : خلال انعقاد القمة العربية الإسلامية في الدوحة.

 

 التصريحات الأمريكية المثيرة

أعلن روبيو خلال زيارته أن  "لا سلام ممكن دون إنهاء حماس" ، مشيراً إلى أن :

 -   الولايات المتحدة تدعم بشكل كامل حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها.

 -   أي حل سياسي يجب أن يضمن تفكيك قدرات حماس العسكرية.

 -   الدعوات العربية لمراجعة العلاقات مع إسرائيل "غير مجدية".

  3 تصريحات نتنياهو التهديدية: رسائل واضحة للمؤتمرين

التهديد بإعادة الهجوم على قطر

أكد نتنياهو أن إسرائيل  ستعيد الهجوم على قطر  أو أي مكان آخر طالما أن قادة حماس ليسوا مقبوضاً عليهم، قائلاً :

 -   طالما أن قادة حماس أحرار، فلن نتردد في ملاحقتهم"  اينما كانوا "

-   إسرائيل لديها القدرة على الوصول إلى أي مكان تعتقد أنه ضروري لأمنها.

التهديد بفتح جبهات حرب متعددة

ذهب نتنياهو إلى أبعد من ذلك بالتهديد بفتح جبهات حرب مع دول عربية وإسلامية  متعددة :

-     نحن على استعداد لمواجهة أي تهديد، سواء من تركيا أو الأردن أو السعودية .

-     إسرائيل لديها القدرة العسكرية للانتصار في حرب متعددة الجبهات .

-     لا أحد بمأمن من ردنا إذا استمرت التهديدات لأمننا .

الرسائل الكامنة

-    استعراض القوة : التأكيد على التفوق العسكري الإسرائيلي والقدرة على المواجهة على جبهات متعددة.

-    تقسيم الصف العربي : محاولة إثارة الخوف بين الدول العربية من مواجهة عسكرية مع إسرائيل.

-    تقويض جهود الوساطة : إرسال رسالة بأن إسرائيل لن تتراجع عن سياساتها رغم الضغوط الدولية.

 

 

 . 4 الوزن الفعلي للقمة في مواجهة الرد الإسرائيلي

 الفجوة بين الخطاب والواقع

كشفت الردود الإسرائيلية على فجوة صارخة بين الخطاب العربي الموحد والقدرة الفعلية على التأثير :

 -   الخطاب العربي: دعوات لمراجعة العلاقات وتنسيق الجهود لتعليق عضوية إسرائيل في الأمم المتحدة .

 -  الواقع الإسرائيلي : استمرار الهجمات العسكرية والتوسع الاستيطاني ورفض أي حلول سياسية.

ردود الفعل الدولية

 - الموقف الأمريكي : دعم كامل لإسرائيل وتصريحات مثيرة للجدل تزيد من تأجيج الموقف .

 - الموقف الأوروبي : قلق من التصعيد لكن دون إجراءات فعلية لوقف الانتهاكات الإسرائيلية.

 - الموقف الروسي والصيني : دعوات لضبط النفس وحل الأزمة عبر الوسائل الدبلوماسية.

سيناريوهات مستقبلية

1. استمرار التصعيد : استمرار الهجمات الإسرائيلية وردود الفعل المحدودة من الجانب العربي.

2. تصعيد عسكري محدود : مواجهات متفرقة على عدة جبهات دون الوصول إلى حرب شاملة.

3. تدخل دولي : ضغوط دولية متزايدة لوقف التصعيد والعودة إلى المفاوضات.

 الخلاصة : الرد الإسرائيلي على قمة الدوحة كشف أن إسرائيل لا تأخذ التحركات العربية بجدية كافية، وأن المواقف العربية ما زالت تفتقر إلى الإرادة السياسية والقدرة العسكرية لفرض تغيير في المعادلة. المستقبل سيعتمد على قدرة العرب على تحويل الخطاب إلى فعل، والكلمات إلى إجراءات ملموسة.

 سيناريوهات المستقبل بين التشاؤم والتفاؤل

السيناريو التشاؤمي يشير إلى استمرار التراجع العربي، مع زيادة التطبيع مع إسرائيل، وتراجع دور الجامعة العربية، وتصاعد النزاعات بين الدول العربية. هذا السيناريو يعتمد على استمرار الوضع الراهن دون أي تغيير جذري في بنية الأنظمة أو آليات العمل العربي المشترك.

أما السيناريو التفاؤلي فيراهن على صحوة عربية جديدة، حيث تلعب الضغوط الشعبية دوراً في إجبار الأنظمة على التغيير، وإحياء آليات المقاطعة العربية، وبناء تحالفات إقليمية بديلة مع قوى صاعدة مثل الصين وروسيا. هذا السيناريو يتطلب إرادة سياسية حقيقية وشجاعة في مواجهة الضغوط الغربية.

الخاتمة :

البقاء في الحاضر يعني الخروج من الجغرافيا 

بعد أكثر من سبعة عقود من المؤتمرات الفاشلة، أصبح من الواضح أن النظام العربي الرسمي يعاني من أزمة وجودية. الأرقام تتحدث عن نفسها: 3.9 مليار دولار تكلفة القمم، أقل من 10% نسبة تنفيذ القرارات، 76% تبعية للغرب. هذه الأرقام لا تحتاج إلى تفسير، فهي تشير إلى فشل ذريع يحتاج إلى مراجعة جذرية.

الخيار الآن بين استمرار المسرحية الهزلية، أو البدء في بناء نظام عربي جديد يعبر عن إرادة الشعوب لا مصالح الأنظمة. التحدي كبير، ولكن الصحوات الشعبية الأخيرة في عدة دول عربية تثبت أن الأمل لا يزال موجوداً، وأن الشعوب العربية قادرة على تغيير واقعها إذا توفرت لها القيادة والرؤية الواضحة.

آن الأوان ليقول العرب لأنفسهم: كفى خطاباً بلا فعل، كفى استنكاراً بلاتنفيذ ، كفى مؤتمرات بلا قرارات ملزمة المستقبل لا ينتظر، وإما أن نغير أو نندثر. فهل نتعلم من دروس التاريخ قبل فوات الأوان؟

هل بقي أحدٌ يُقيم وزنًا للمؤتمرات العربية؟ 

بعد أكثر من سبعة عقود من انعقاد المؤتمرات العربية، ووسط تراكم الفشل في تحقيق أي تغيير ملموس على الأرض، يبرز سؤال مصيري: **هل ما زال أحدٌ يُقيم وزنًا لهذه المؤتمرات؟** الإجابة المؤسفة تكمن في تحول هذه المؤتمرات إلى مجرد طقوس شكلية فقدت مصداقيتها تمامًا، خاصة في ظل عجزها عن اتخاذ أي إجراءات فعلية تضغط على إسرائيل، بما في ذلك استدعاء السفراء أو تخفيض مستوى التمثيل الدبلوماسي.

  فشل ذريع في اتخاذ إجراءات دبلوماسية فعلية

على الرغم من الخطابات الحادة التي تخرج من هذه المؤتمرات، فإن الواقع يُظهر  عجزًا كاملًا عن ترجمة هذه الخطابات إلى إجراءات ملموسة. فمصر، على سبيل المثال، تؤجل تعيين سفير جديد في تل أبيب منذ عام 2023 بسبب العدوان الإسرائيلي على غزة، لكنها لم تتخذ أي إجراء أكثر حسماً مثل سحب السفير أو تخفيض مستوى التمثيل الدبلوماسي بشكل دائم . بل إن الوثائق المسربة تكشف أن ضغوطًا أمريكية تُمارس على مصر لتعيين سفير جديد، مما يعكس مدى تآكل السيادة العربية تحت وطأة التبعية للخارج .

 مسرحيات دبلوماسية لا تغير من الواقع شيئًا

المؤتمرات العربية تحولت إلى  مسرحيات دبلوماسية مُعدة مسبقًا، حيث تُكتب القرارات في العواصم الغربية قبل انعقاد المؤتمرات . فالقمم لم تعد سوى منصات للخطاب السياسي الفارغ، بينما على الأرض، تستمر إسرائيل في عدوانها وتوسعها دون أي اعتبار للقرارات العربية. في لحظات الغضب العربي العارم، كما حدث بعد الهجوم على غزة، لم تتعد ردود الفعل العربية البيانات الإعلامية والاستنكارات التي لا تغير من الواقع شيئًا.

بعد هذه القراءة المتعمقة ، يبرز سؤال مصيري: هل ما زالت هذه المؤتمرات تحظى بأي مصداقية أو تأثير حقيقي؟ الواقع يؤكد أن المؤتمرات العربية تحولت إلى مجرد طقوس شكلية فقدت مصداقيتها محلياً ودولياً.

فشلت هذه المؤتمرات حتى في أبسط الإجراءات الدبلوماسية كاستدعاء السفراء أو تخفيض مستوى التمثيل الدبلوماسي مع إسرائيل. الوثائق المسربة تكشف كيف أن قراراتها تُكتب مسبقاً في العواصم الغربية، مما جعلها مجرد "مسرحيات دبلوماسية" لا تغير من الواقع شيئاً.

الأرقام تتحدث عن نفسها: 

 - أقل من 10% نسبة تنفيذ القرارات

3.9 -  مليار دولار تكلفة القمم منذ 1946

76% - من الدول العربية تعتمد على المساعدات الغربية

لم يعد المواطن العربي يثق في هذه المؤتمرات، ولم تعد الدول الدولية تعير قراراتها أي اهتمام. لقد حان الوقت للاعتراف بأن هذه المؤتمرات أصبحت جزءاً من المشكلة وليس الحل.

المستقبل يتطلب نظاماً عربياً جديداً يعبر عن إرادة الشعوب لا مصالح الأنظمة، ويكون قادراً على اتخاذ قرارات حقيقية وملزمة تحمي مصالح الأمة وتدافع عن كرامتها.

 

 


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
المصادر

للتواصل مع الكاتب: 

Hdd.qal@gmail.com

التعليقات (0)