د. محمد إبراهيم المدهون يكتب: غيتو رفح

profile
د. محمد إبراهيم المدهون كاتب ووزير فلسطيني سابق
  • clock 12 يوليو 2025, 9:47:56 ص
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

في قلب قطاع غزة، وعلى أنقاض الحياة والكرامة، يُعيد الاحتلال الصهيوني العنصري رسم خريطة جديدة للمأساة الفلسطينية عبر إنشاء "غيتو رفح" — مساحة مغلقة تُفرض فيها إجراءات قاسية من العزل، التجويع، والتحكم الأمني. ليست هذه مجرد خطة عسكرية، بل تجربة إبادة ممنهجة تختبر الحدود الجديدة للظلم والتنكيل، حيث تتحول المدينة إلى سجن مفتوح يعيش سكانه تحت وطأة الاستبداد والتهجير القسري، في ظل صمت دولي مريب. هذا المقال يستعرض تفاصيل هذه الجريمة المنظمة، ويكشف الوجه الحقيقي لما يُسوّق على أنه "مدينة إنسانية" بينما هي مدينة للتهجير والإبادة والتطهير العرقي.

في تقرير نشره نوعم أمير، مراسل الشؤون العسكرية للقناة 14 العبرية، تكشّفت تفاصيل جريمة كبرى: تحويل محور موراج إلى غيتو صهيوني مغلق، يقسم قطاع غزة إلى كيانين منفصلين، مع عزل رفح عن باقي القطاع لتحويلها إلى "مدينة آمنة" قسرية لسكان غزة. يُجبر الغزيون على الدخول إليها عبر هندسة متعمدة للخوف والمجاعة، حيث تُدمر البنية التحتية عمدًا، وتُخنق الحياة، وتُحتكر المساعدات الإنسانية، حتى يتحول "الغذاء" نفسه إلى أداة حرب.

في محور موراج لا تُرسم فقط حدود عسكرية، بل يُعاد تشكيل أحد أبشع وجوه الجريمة التاريخية باسم "النجاة". إذ تسابق (إسرائيل) الزمن لبناء ما تسميه "مدينة إنسانية" تمتد من رفح حتى كرم أبو سالم، حيث يخضع سكان غزة لعزل أمني صارم وفصل عنصري بين "مدني" و"أهله"، وفق تصنيفات عنصرية لا تقل وحشية عن أسوأ أنظمة الفصل في التاريخ. وفي تضليل ممنهج، تُشرف على هذا الغيتو مؤسسة "غزة الإنسانية"، التي تحولت إلى واجهة لتطبيق خطة "آيلاند" التهجيرية بالشراكة مع الإدارة الأمريكية، في مشهد يُموه بغطاء إنساني ناعم، لكنه في جوهره عملية تطهير عرقي صارخة.

هذا الغيتو ليس مجرد معسكر لجوء، بل هو معسكر تصنيف وفحص أمني محكم يتحكم بالكامل في حركة السكان وهويتهم. من يدخل لا يخرج، ومن يُرفض يُترك للموت، ومن يُقبل يُفصل تمامًا عن مجتمعه وأهله في عملية "تنقية بشرية" تتعدى كل المعايير الدولية. التجويع هنا ليس أمرًا عرضيًا، بل أداة مركزية للحرب؛ إذ وثّقت تقارير مثل The Guardian وReuters مقتل المئات أمام نقاط توزيع الغذاء، كما سجلت منظمة العفو الدولية (أمنيستي) استخدام الجوع كسلاح إبادة جماعية.

تُستعاد بهذا المشهد تجربة "غيتو وارسو" الذي حُشر فيه يهود أوروبا تمهيدًا لإبادتهم، لكن المفارقة الموجعة هي أن ضحايا الأمس هم اليوم صانعو غيتوهات جديدة تحت شعارات مزيفة من الأمن والسلامة. الواقع هو أبارتهايد مقنّع برعاية أمريكية بمسمى مؤسسات "الرحمة" الدولية، نموذج متطرف يشبه نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، ويستند إلى عقيدة استيطانية دينية ترى الفلسطيني "غوييمًا" لا يستحق الحياة.

بينما كانت غيتوهات وارسو ولودج تُقام لعزل يهود أوروبا داخل جدران الإبادة النازية، يقام اليوم غيتو رفح لعزل سكان غزة في "مدينة للموت البطيء"، تشرف عليها أجهزة الاحتلال الأمنية وتمولها منظمات دولية. تمهّد هذه الخطوات لمسار نحو مطار رامون باعتباره محطة نهائية في خطة "آيلاند" للتهجير الجماعي. إنه غيتو ليس للهروب من الإبادة، بل لتنفيذها، بنسخة صهيونية مبتكرة.

وتتقاطع العقيدة الصهيونية العنصرية مع نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، حيث كانت "البانتوستانات" مناطق عزل وتهجير للسكان الأصليين بحجة الأمن والتنمية. اليوم تتحول رفح إلى بنتوستان فلسطيني، وسط تعتيم دولي وصمت أخلاقي عالمي، وتواطؤ مؤسسات تزعم حماية الإنسان لكنها تشرف على محاصرته وتهجيره وتحويله إلى أسرى في مدن اعتقال.

إنها لحظة انقلاب التاريخ، حيث يتحول ضحايا الغيتو إلى صنّاع غيتو، يكررون الكارثة على شعب آخر تحت مسميات "الردع" و"الإنسانية"، ليُسقط القناع عن الوجه الحقيقي للعنصرية الصهيونية: نظام فصل عنصري مسلح بزعم أخلاقي كاذب وحقد تاريخي مزمن يعيد إنتاج أبشع فصول القرن العشرين، لكن بسيناريو معكوس. والضحية هذه المرة هي غزة.

إن إقامة الغيتو الإجباري في رفح، واستخدام التجويع والترويع كأدوات لإجبار المدنيين على دخول مناطق مغلقة تخضع للفحص الأمني والرقابة العسكرية، يمثل جريمة مكتملة الأركان بموجب اتفاقية جنيف الرابعة، وخرقًا صارخًا للمادة 7 من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية التي تجرّم النقل القسري للسكان تحت التهديد أو الضغط. ما يحدث في غزة، وخصوصًا في رفح، جزء من مشروع إبادة جماعية يحاول الاحتلال تمريره تحت غطاء إنساني زائف، وبشراكة مع قوى دولية ومؤسسات ذات أجندات مشبوهة.

لذا، يُفرض على المنظمات الحقوقية والمحامين الدوليين وهيئات الأمم المتحدة التحرك العاجل لوقف هذه الجريمة المنظمة، وتوثيق كل خطوة في مخطط "الغيتو الإنساني" كمقدمة لملف اتهام رسمي ضد قادة الاحتلال وشركائهم. كما أن الشعوب الحرة مدعوة لتصعيد الضغط الشعبي والإعلامي، وإعادة تعريف دور المنظمات "الإنسانية" في غزة التي تحولت إلى أدوات تبرير وتغطية للإبادة الجارية.

الصمت هنا هو خيانة، والتهاون في هذه اللحظة التاريخية ترخيص دولي لإبادة مستمرة. الواجب الآن هو كسر الجدار، لا ترميمه... وتحرير الغيتو، لا تأمينه.

في رفح يُعاد تمثيل أكثر فصول القرن العشرين سوادًا، لكن بوجه جديد: غيتو غزة، بتوقيع الاحتلال، وبحبر أمريكي، وبدم فلسطيني.
 


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
التعليقات (0)