-
℃ 11 تركيا
-
22 سبتمبر 2025
رامي أبو زبيدة يكتب: بين القيد والعتمة.. لحظة تنفّس مع المحامية جنان عبده
رامي أبو زبيدة يكتب: بين القيد والعتمة.. لحظة تنفّس مع المحامية جنان عبده
-
22 سبتمبر 2025, 7:52:19 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
رامي أبو زبيدة يكتب: بين القيد والعتمة.. لحظة تنفّس مع المحامية جنان عبده
في صباح الثالث من مارس 2024، كنت مجرد رقم جديد في دفتر الاعتقال.. رقمٌ يُساق بعصبة على العينين، وبقيد ينهش اليدين، إلى غياهب مجهولة. سيدتيمان... ذلك المعتقل سيّئ السمعة الذي ابتلعني ثلاثة أشهر كاملة. لم يكن فيه ليل أو نهار، بل دورة لا تنتهي من التعذيب والحرمان، من الصراخ والركل والضرب، من عزلنا عن أي خبر أو همسة قد تطمئن القلب. كنا معلقين بين السماء والأرض، لا نعرف إن كانت غزة ما زالت صامدة، ولا إن كان أولادنا أحياء أم ابتلعهم الركام.
ثم جاء الانتقال إلى عوفر. حملت القيود ذاتها، والقمع ذاته، لكن بتفاصيل أخرى من العذاب. وفي صباحٍ بارد، نُودي على رقمي: 788. لم يكن اسمي يعني لهم شيئًا. أنا مجرد رقم. جُررت من الزنزانة كقطعة مهملة، سُحلت على أرضٍ قاسية مغطاة بالحصى، يدي مكبلتان خلف ظهري وقدماي مقيدتان، والعصبة تحجب عني كل ما حولي.
من السابعة صباحًا حتى الواحدة ظهرًا، أُجبرت على البقاء في وضعية السجود، ظهري يئن، صدري يختنق، وذهنٌ يركض في دوامة من الرعب: هل أنا ذاهب إلى جولة تحقيق جديدة؟ إلى حفلة تعذيب أخرى؟ أم إلى نقلٍ مجهول لا أعلم أين ينتهي؟.
ثم فجأة... أُدخلت غرفة صغيرة. العصبة ارتفعت عن عيني لأول مرة منذ ساعات. أمامي جلستا امرأتان بملامح عربية. قلبي تردد: أهما محققتان بزيّ جديد أم أنه فخ آخر من الشاباك؟ إلى أن عرّفت إحداهن عن نفسها: المحامية جنان عبده. لحظةً اختلط فيها الشك بالدهشة، والخوف بالأمل.
كنت صامتًا، مشدود الأعصاب، أراقبها بعينين منهكتين. لكن حين بدأت تذكر تفاصيل دقيقة عن عائلتي، عن أولادي، عن بيتنا، عن غزة... شعرت أن جدار الشك بدأ يتهاوى. لم أعد أنظر إليها كغريبة، بل كنافذة ضوء وسط هذا الليل الحالك. سألتها بلهفة مرتجفة: "هل بقي أحد من أهلي؟ هل أولادي أحياء؟ هل توقفت الحرب؟". كانت الإجابات مثل ماء بارد يسكب على روح عطشى.
خمسة وأربعون دقيقة، لا أكثر. لكنها كانت شريان حياة. لحظة استعدت فيها إنسانيتي التي حاول السجّانون طمسها. شعرت أنني ما زلت إنسانًا، لي أهل، لي قضية، لي وطن يحترق لكن لم يمت.
بعد عام خرجت من السجن، مثقلاً بما جرى، ولا يزال شقيقي إبراهيم لا يعرف هول ما وقع. لا يعرف أن أمي وأخوتي وأبناءهم استشهدوا تحت القصف، وأن بيوتنا سُويت بالأرض، وأننا بتنا نتنقل من خيمة إلى أخرى في وطنٍ لم يبقَ لنا فيه سوى الرماد.
لكن ما زلت أذكر تلك اللحظة. نظراتي حين قابلتها، نظراتها وهي تخبرني أن العائلة ما زالت على قيد الحياة. كانت نظرات اختصرت معنى الحرية وسط السلاسل. المحامية جنان عبده لم تكن مجرد زائرة، بل كانت دليلًا على أن الحقيقة يمكن أن تتسلل حتى بين جدران عوفر السميكة، وأن صوت الإنسان يمكن أن يهزم صمت السجان.









