-
℃ 11 تركيا
-
26 أغسطس 2025
د. إبراهيم جلال فضلون يكتب: فيلسوف الحانات وسمسار البورصة.. علاقات 2030 السامة
د. إبراهيم جلال فضلون يكتب: فيلسوف الحانات وسمسار البورصة.. علاقات 2030 السامة
-
23 أغسطس 2025, 12:53:31 ص
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
"عدو" الاتحاد الأوروبي والفائز الأكبر بمقاعد بريطانيا في البرلمان الأوروبي، الاسم الذي ارتبط بالشعبوية البريطانية وصار مرادفاً للبريكست، يواصل فرض حضوره على الساحة السياسية في المملكة المتحدة، في مشهد يعكس تحولات كبرى تشهدها أوروبا والغرب بأسره. من وسيط صفقات مالية في بورصة لندن إلى زعيم سياسي يحلم بكرسي رئاسة الوزراء عام 2030، رسم فاراج مسيرة مليئة بالجدل، لكنها أيضاً مليئة بالمفاجآت والانعطافات التي غيرت مسار بريطانيا الحديث، وهو القائل بعدما قال إيلون ماسك إن حزب الإصلاح البريطاني يحتاج إلى قائد جديد: "لا يمكن الضغط عليه أو التنمر عليه" حيث رد ماسك، مالك شركتي "تسلا" و"سبيس إكس"، إن فاراج "ليس لديه ما يلزم" لقيادة الحزب.
إنه الشعوبي البريطاني الذي رد علي همجيته المجلس الإسلامي في بريطانيا: "إن نايجل فاراج يتبنى خطابًا جامدًا، يتسم بمعاداة الإسلام والعنصرية وإثارة الانقسام في المجتمع البريطاني"، ليُهاجم فاراج حملة صوت المسلمين، واتهمها بمحاولة تقسيم المجتمع البريطاني، علمًا أن حملة صوت المسلمين تتلقى الدعم من مجموعات المجتمع المدني في بريطانيا، وتدعو إلى عدم انتخاب السياسيين البريطانيين الذين لم يتبنوا موقفًا داعمًا لوقف إطلاق النار في غزة.
لم يكن المشهد مفاجئاً لمن يعرف نايجل فاراج جيداً. الرجل الذي قضى حياته السياسية وهو يزرع بذور الانقسام والعداء، عاد ليطل على البريطانيين بخطة أشد قسوة من كل ما طرحه سابقاً: استئجار سجون في أميركا اللاتينية لترحيل "عشرة آلاف مجرم خطير" من الأراضي البريطانية، إنه المضطرب العدائي والناقد الحاد، لم يكن ظهوره على صفحات ذا صن مجرد مقابلة سياسية عابرة، بل مشهداً أقرب إلى مسرحية غرائبية؛ رجل يبتسم وهو يلوّح بخطة مروّعة: "سأرسل المجرمين إلى الجحيم… إلى سجون السلفادور"، وقد بدا فاراج كالعاشقة السامة في قصص الأدب: تُغريك بضحكتها الناعمة، تهمس في أذنك بحلول سهلة، ثم تتركك غارقاً في ظلام علاقة لا مخرج منها.
تصرّف فاراج كـ امرأة لعوب تعرف كيف تُسكِر جمهورها بالوهم. في البريكست، قدّم للناس "النص الحلو"، طائراً جميلاً يخدعك برقصة أجنحته، حتى إذا اقتربت، التهمك بلا رحمة كحبارير الموت. بعدما وعدهم بالحرية والازدهار، ثم تركهم يستيقظون على عزلة اقتصادية وانقسام سياسي. واليوم، يعود بالخطة نفسها بوجه آخر: "ترحيل عشرة آلاف مجرم خطير" إلى سجون قاسية خلف البحار.
لكن لماذا السلفادور؟: لأنها اليوم مختبر الاستبداد المفضل لدى اليمين العالمي، حيث شيّد الرئيس نجيب بوكيلة سجناً عملاقاً يضم 40 ألف إنسان كأنهم حشرات محشورة في قفص. منظمة هيومن رايتس ووتش وصفته بـ"المقبرة الحية"، لكن فاراج، مثل المرأة الحبور التي ترى في العنف حباً وفي الألم علاجاً، وجد فيه إلهامه الجديد.. لنجد أن لغته ليست لغة رجل دولة، بل أقرب إلى خطابات زعيم ميليشيا ثمل في حانة. "سأرسل الوحوش الفاسدة إلى الجحيم"، تسافر دون وعي المحيطين للإغواء، يقولها ببرود، وكأن بريطانيا التي صدّرت للعالم "الماغنا كارتا" وسيادة القانون، لم تعد سوى إمرأة مخدوعة في علاقة سامة، تنجذب لمن يضربها ويعدها بالحب في الوقت نفسه.
الأرقام تضيف حبكة أكثر قتامة: 87 ألف سجين يملأون السجون البريطانية حتى الانفجار، تكاليف تتجاوز 50 ألف جنيه سنوياً للسجين الواحد، وفضائح لا تنتهي عن جرائم تُرتكب خلف القضبان. هنا يظهر فاراج كالعاشق "الحبور" المهووس الذي يقدّم "الحل السهل": نطردهم بعيداً، نرميهم في جحيم السلفادور، ونرتاح من صداعهم. لكن، كما في كل علاقة مضطربة، الحل ليس إلا وهماً جميلاً يخفي خراباً أعمق.
القانونيون يحذّرون من كارثة قانونية: انسحاب من المعاهدة الأوروبية لحقوق الإنسان، عزلة دولية، مقارنات معتادة مع غوانتانامو الأميركي. الخبراء في علم الجريمة يصرّون: نقل المجرمين إلى بيئات وحشية لا يقلل الجريمة، بل يضاعفها. لكن فاراج يتلذذ بالصخب، كما تتلذذ المرأة اللعوب بدموع ضحاياها وحبور للحياة، وتعود لتغوي ضحاياها الجُدد واحدا دون معرفة بعضهم البعض، بل ودون أن يشعر بسُمها الناس.
المشهد برمته يبدو كعلاقة بريطانيا مع "حباري الموت": طائر يخدعها بجماله، فتطارده، ثم تجد نفسها ممزقة بمخالبه. فاراج ليس حلاً، بل اضطراب نفسي سياسي، يذكّر البريطانيين بأن الانبهار بالوجوه الشعبوية قد يحوّل بلدهم العريق إلى نسخة لاتينية من أميركا المتوحشة.
خطابه السياسي يتركز على ثلاثية واضحة: وقف الهجرة، تعزيز الاقتصاد الوطني، ومعارضة التحول السريع إلى الطاقة النظيفة. فهو يرى أن مشكلات بريطانيا الاجتماعية والاقتصادية مرتبطة أساساً بتدفق المهاجرين، ويطالب بالخروج من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان من أجل إعادة اللاجئين إلى بلدانهم أو إلى دول ثالثة. كما يعارض بشدة الإنفاق على مشاريع الطاقة المتجددة، داعياً بدلاً من ذلك إلى الاستثمار في الوقود الأحفوري لتعزيز أمن الطاقة، وهو موقف يضعه في مواجهة مباشرة مع التيار البيئي المتصاعد. دراسة صادرة عن مؤسسة "تشاتام هاوس" عام 2020 أشارت إلى أن مواقف فاراج البيئية تمثل "أحد أكثر التحديات الفكرية التي يطرحها اليمين الشعبوي في أوروبا"، لأنها تخالف الإجماع العلمي والسياسي حول التغير المناخي لكنها تجد صدى لدى الطبقات المتضررة من ارتفاع أسعار الطاقة.
على الصعيد الدولي، لا يخفي فاراج صداقته الوثيقة مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي وصفه مرة بأنه "أعظم رجل سياسي في بريطانيا". وعندما عاد ترامب إلى البيت الأبيض في ولايته الثانية مطلع 2025، كان فاراج أحد أوائل السياسيين الأوروبيين الذين التقوا نائبه جي دي فانس. هذه العلاقات أثارت قلق الأوساط السياسية التقليدية في لندن وبروكسل، إذ يرون فيها امتداداً لمحور يميني شعبوي عالمي يمتد من واشنطن إلى لندن وباريس وروما. أما بالنسبة لروسيا، فقد أثار جدلاً واسعاً بتصريحاته التي حمل فيها الغرب مسؤولية استفزاز موسكو ودفعها إلى حرب أوكرانيا، وهو ما اعتبرته "الغارديان" دليلاً على مرونته تجاه الكرملين.
ويبقى السؤال: هل يستفيق البريطانيون من هذه العلاقة السامة قبل أن تتحوّل إلى زواج أبدي مع القسوة والعزلة؟ أم يواصلون الرقص مع "حباري النص الحلو"، حتى يأتي اليوم الذي يكتشفون فيه أن كل تلك الوعود لم تكن سوى فخ قاتل في ثوب جميل؟
وهكذا، يتحرك فاراج ككاتب سيناريو بارع، يصنع قصة مشحونة بالغضب، ويمنح جمهوره نهاية بسيطة: "أرسلوهم إلى الجحيم". لكن الواقع أكثر تعقيداً، فالسؤال الحقيقي الذي يطارده هو: هل ما يريده فاراج حقاً هو حماية البريطانيين، أم بناء مجده السياسي على أنقاض القيم التي طالما ميّزت بريطانيا؟

.jpeg)








