خلفية تاريخية عن تأسيس الكلية

د.لبيب جار الله المختار يكتب: كلية فكتوريا في مصر: التعليم بين الهيمنة البريطانية وصناعة النخب

profile
د. لبيب جار الله المختار كاتب ومحلل سياسي
  • clock 3 سبتمبر 2025, 7:54:35 م
  • eye 428
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01
كلية فكتوريا في مصر

عندما يُذكر تاريخ التعليم في مصر في مطلع القرن العشرين، تبرز كلية فكتوريا (Victoria College) كواحدة من أبرز المؤسسات التعليمية التي ارتبط اسمها بالهيمنة البريطانية في المنطقة ، أذ لم تكن هذه المدرسة مجرد مؤسسة تعليمية تقليدية، بل مثلت مشروعاً سياسياً وثقافياً بريطانياً متكاملاً، يهدف إلى إعداد جيل من النخب العربية والشرقية الموالية، والمستعدة لتولي أدوار قيادية تتماشى مع مصالح الإمبراطورية ، وهكذا تحولت الكلية إلى فضاء لصناعة "نخبة هجينة" تحمل القيم الغربية ولكنها متجذرة في المجتمعات الشرقية، لتكون أداة في يد بريطانيا لإدامة نفوذها في الشرق الأوسط.

خلفية تاريخية عن تأسيس الكلية

تأسست كلية فكتوريا في مدينة الإسكندرية عام 1902، في مرحلة كانت فيها مصر خاضعة للاحتلال البريطاني المباشر منذ عام 1882 ،أذ أن الإسكندرية لم تكن مجرد مدينة ساحلية، بل كانت مركزاً تجارياً وثقافياً متعدد الأعراق، حيث تعايش المصريون مع جاليات يونانية، إيطالية، يهودية، مالطية، وأرمنية، إضافة إلى الحضور البريطاني القوي ، وهذا التنوع جعلها المكان الأمثل لإقامة مؤسسة تعليمية تعكس الوجه "المدني" للاستعمار البريطاني من وجهة نظرهم .

وقد تم أنشاء الكلية بتمويل ودعم من السلطات البريطانية، وسُميت باسم الملكة فكتوريا، رمز الإمبراطورية التي "لا تغيب عنها الشمس" ، وقد كان الهدف المعلن منها توفير تعليم حديث لأبناء العائلات الأرستقراطية في مصر والمنطقة، أما الهدف غير المعلن فكان أبعد من ذلك: صناعة جيل من القادة السياسيين، الاقتصاديين، والفكريين الموالين للثقافة البريطانية.

المناهج واللغة كأدوات للهيمنة

اعتمدت كلية فكتوريا على مناهج دراسية مستوحاة من النموذج البريطاني، مع تركيز على اللغة الإنجليزية كلغة أساسية للتدريس ويمنع منعاً باتاً التكلم بأي حرف عربي حتى تم وضع عقوبات انية لمن ينطق بالعربية ، في وقت كانت اللغة العربية تعاني من التهميش أمام صعود الفرنسية والإنجليزية في التعليم النخبوي ، بذلك كانت الكلية تُشكل عقول الطلاب منذ نعومة أظفارهم على أن الانتماء للثقافة البريطانية يمنحهم مكانة أعلى، وأن المعرفة لا يمكن تحصيلها إلا عبر لغة الإمبراطورية.

لم تكن المواد التعليمية مجرد علوم أو آداب، بل كانت تحمل في طياتها قيماً ثقافية وسياسية ، فقد جرى التركيز على التاريخ الأوروبي، الأدب الإنجليزي، وفلسفة الحداثة الغربية، بينما أُغفل أو هُمش التاريخ العربي والإسلامي ، هذا الترتيب لم يكن بريئاً، بل مقصوداً لتكريس فكرة التفوق الغربي في أذهان الطلاب.

استقطاب أبناء النخب العربية والأجنبية

اللافت أن الكلية لم تقتصر على أبناء المصريين الأثرياء، بل جذبت طلاباً من أسر عربية بارزة في المنطقة: من العراق وسوريا ولبنان وفلسطين وحتى شبه الجزيرة العربية ، فقد أدركت بريطانيا أن مستقبل نفوذها في الشرق الأوسط لن يقتصر على مصر، بل سيمتد إلى بلاد الشام والعراق والخليج ، ومن ثم فإن صناعة نخبة عربية في"مدرسة فكتوريا" ستضمن وجود قيادات مستقبلية متشبعة بالثقافة البريطانية ومتصلة بشبكات النفوذ الغربي.

أسماء عديدة برزت لاحقاً في عالم السياسة والاقتصاد والثقافة ممن درسوا في كلية فكتوريا ، ومن هؤلاء: الملك حسين بن طلال ملك الأردن لاحقاً، الملك فيصل الثاني ملك العراق، إضافة إلى سياسيين ورجال أعمال عرب كُثر ، هذه القائمة تكشف بوضوح عن مدى نجاح بريطانيا في استثمار الكلية لتخريج قيادات تمثل "الجسر" بين مصالح الإمبراطورية والعالم العربي.

الكلية كمختبر سياسي واجتماعي

لم تكن كلية فكتوريا مجرد مؤسسة تعليمية، بل أشبه بـ"مختبر اجتماعي" ، فقد جمعت طلاباً من خلفيات دينية وعرقية مختلفة: مسلمون، مسيحيون، يهود، وأجانب ، وهذا الخليط كان يعكس بدقة صورة الإمبراطورية البريطانية التي أرادت أن تُظهر نفسها ككيان قادر على توحيد شعوب متعددة تحت راية واحدة ، إلا أن هذه الوحدة كانت ظاهرية، إذ كان الهدف العميق هو تدريب هؤلاء الطلاب على التعايش ضمن منظومة قيم بريطانية، تجعلهم أكثر قابلية لتقبل الاستعمار باعتباره "مشروعاً حضارياً".

كما أن النشاطات اللاصفية، من الرياضة إلى الجمعيات الثقافية، لم تكن عفوية، بل كانت أدوات لترسيخ الانضباط، روح الفريق، والولاء للنموذج البريطاني ، بالإضافة الى الرياضات مثل الكريكيت والركبي لم تكن مجرد ألعاب، بل رموز ثقافية ترمز إلى تفوق النمط الإنجليزي على ما سواه.

الأهداف البريطانية وراء إنشاء الكلية

يمكن تلخيص ما كانت بريطانيا تريده من وراء إنشاء كلية فكتوريا في عدة نقاط استراتيجية:

1. صناعة نخب موالية: الهدف الأول كان إعداد قيادات عربية مستقبلية تدين بالولاء الثقافي والفكري للندن، بحيث يسهل توجيه قراراتها السياسية والاقتصادية لاحقاً.

2. إعادة إنتاج الهيمنة الثقافية: عبر اللغة والمناهج، أرادت بريطانيا أن تضمن استمرار سيطرة الثقافة الإنجليزية على حساب العربية أو الفرنسية.

3. تأمين مصالح الإمبراطورية: الشرق الأوسط كان بالنسبة لبريطانيا منطقة حيوية بسبب قناة السويس، النفط في العراق والخليج، والموقع الجيوسياسي ، لذا فإن السيطرة على العقول كانت لا تقل أهمية عن السيطرة العسكرية.

4. إظهار الوجه الحضاري للاستعمار: أرادت بريطانيا أن تُظهر نفسها كقوة تجلب التعليم والحداثة، في مقابل الصورة السلبية للاستعمار كقوة قمع ونهب.

5. بناء شبكة علاقات مستقبلية: الطلاب الذين تخرجوا من الكلية أصبحوا لاحقاً سفراء غير رسميين للثقافة البريطانية في بلدانهم، وهو ما ضمن للإمبراطورية شبكة نفوذ طويلة الأمد.

 

التناقضات والإشكاليات

رغم نجاح المشروع، إلا أن كلية فكتوريا لم تكن خالية من التناقضات ، فقد أنتجت جيلاً من القادة العرب الذين تعلموا في المدرسة البريطانية، لكن بعضهم لاحقاً تبنى مواقف قومية أو مناهضة للاستعمار ، هذا يعكس أن عملية "تطويع" العقول ليست دائماً مضمونة النتائج ، فالاحتكاك بالحداثة الغربية أحياناً كان يدفع بعض الطلاب إلى إعادة التفكير في أوضاع بلدانهم، والسعي للتحرر من الاستعمار بدل الخضوع له.

كما أن المدرسة كانت نخبوية للغاية، لا يدخلها إلا أبناء الأغنياء والأسر الحاكمة، ما عزز الفجوة بين النخب والشعوب ، وبذلك ساهمت بشكل غير مباشر في تكوين طبقة اجتماعية منفصلة، كثيراً ما نظر إليها الشعب المصري والعربي بشيء من الريبة أو الغربة.

الإرث الممتد لكلية فكتوريا

استمرت الكلية لعقود كرمز للتعليم النخبوي في مصر والشرق الأوسط، قبل أن تتعرض للتغييرات الجذرية بعد ثورة 1952 في مصر وصعود النزعة القومية بقيادة جمال عبد الناصر، التي قلصت كثيراً من النفوذ البريطاني في المؤسسات التعليمية والثقافية ، ومع ذلك فإن إرثها ظل حاضراً من خلال شبكات بعض خريجيها الذين لعبوا أدواراً مهمة في السياسة والاقتصاد على مستوى الإقليم.

إن كلية فكتوريا في مصر لم تكن مجرد مدرسة، بل مشروعاً استعمارياً متكاملاً جسّد ما يمكن تسميته "القوة الناعمة البريطانية" في الشرق الأوسط ، عبر التعليم، اللغة، والمناهج، سعت بريطانيا إلى بناء نخبة عربية مرتبطة بها وجاهزة لخدمة مصالحها ، وقد نجحت إلى حد بعيد في ذلك، كما تكشف أسماء خريجي الكلية الذين أصبحوا ملوكاً وزعماء ، لكن في المقابل، فإن هذا المشروع حمل في طياته تناقضات ساهمت لاحقاً في بروز تيارات قومية مناهضة للاستعمار ، وهكذا فإن كلية فكتوريا تظل شاهداً على العلاقة المعقدة بين التعليم والسياسة في زمن الإمبراطوريات.


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
التعليقات (0)