-
℃ 11 تركيا
-
3 أغسطس 2025
د. لبيب جار الله المختار يكتب: كيسنجر وهاس.. رؤيتان أمريكيتان للمنطقة العربية بين الواقعية الصلبة والدبلوماسية المرنة
د. لبيب جار الله المختار يكتب: كيسنجر وهاس.. رؤيتان أمريكيتان للمنطقة العربية بين الواقعية الصلبة والدبلوماسية المرنة
-
15 يوليو 2025, 6:51:58 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
عبر مسارين زمنيين متداخلين ولكن مختلفين في السياق، ترك هنري كيسنجر وريتشارد هاس بصمتيهما على فهم الولايات المتحدة للمنطقة العربية ، وعلى الرغم من تشابه الانتماء الفكري بينهما من حيث تبنيهما للمدرسة الواقعية في السياسة الدولية، إلا أن الفروقات في الزمن والسياق والتجربة الشخصية ولّدت مقاربتين مختلفتين لمعالجة قضايا الشرق الأوسط.
كيسنجر، الذي صاغ الكثير من ملامح السياسة الخارجية الأمريكية في سبعينيات القرن العشرين، نظر إلى المنطقة العربية بوصفها مسرحًا للصراع الدولي، ومفتاحًا للعبة التوازنات الكبرى ، فقد نشأ فهمه للشرق الأوسط في ظل الحرب الباردة، فكانت تحركاته منصبة على احتواء الاتحاد السوفيتي، وضمان أمن (إسرائيل)، والتحكم في تدفقات النفط ، فلم يكن معنيًا بالإصلاح السياسي في المنطقة أو بدفع عجلة الديمقراطية ؛ بل كان يراها بوضوح، مناطق نزاع يجب تجميدها ضمن هندسة صلبة تضمن المصالح الأمريكية طويلة الأمد ، ولهذا فإن زيارته الشهيرة إلى الشرق الأوسط بعد حرب 1973 لم تكن محاولة للسلام بمعناه الإنساني، بل كانت إدارة ذكية للتوازنات الإقليمية لإبعاد السوفييت، وتأمين قنوات الطاقة، وتحقيق مكاسب استراتيجية لواشنطن.
أما ريتشارد هاس، الذي دخل مشهد السياسة الخارجية الأمريكي في ظل عالم ما بعد الحرب الباردة، فقد تعامل مع المنطقة العربية من زاوية مختلفة ، أذ رأى فيها بيئة غير مستقرة، لكنها ليست ساحة صراع دولي بقدر ما هي ساحة اضطراب داخلي وهيكلي ، وبعكس كيسنجر، لم يركز هاس على الصراع العربي-(الإسرائيلي) وحده، بل توسع اهتمامه ليشمل التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية داخل الدول العربية نفسها ، وفي تحليلاته، كثيرًا ما أشار إلى أن أكبر تهديد للمصالح الأمريكية في الشرق الأوسط لا يأتي من قوى كبرى منافسة، بل من فشل الدول نفسها في إدارة شؤونها، ومن تراجع شرعية الحكم فيها، ومن غياب التماسك الاجتماعي، وهي العوامل التي أنتجت من وجهة نظر هاس (الإرهاب، والهجرة، والانهيار الأمني).
كان كيسنجر يميل إلى دعم الأنظمة الحليفة بغض النظر عن طبيعتها، طالما وفرت له الاستقرار والتعاون ، ولم يكن يعنيه إصلاح داخلي في مصر أو السعودية أو غيرها من دول المنطقة ، بينما يحاول هاس، في مداخلاته وتحليلاته، أن يرسم حدودًا جديدة للعلاقة بين واشنطن والعالم العربي، تقوم على فكرة أن الاستقرار لا يمكن تحقيقه إلا إذا ترافق مع إصلاحات داخلية حقيقية، سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية ، ومع ذلك، لا يُعتبر هاس من "الليبراليين المتحمسين"، فهو لا يدعو إلى تغيير الأنظمة بالقوة، بل يؤمن بأن التغيير يجب أن يكون تدريجياً ومُداراً، لا فوضويًا كما حدث في العراق.
في العراق تحديدًا، يظهر الفرق بشكل أكثر وضوحًا بين رؤية وفكر الشخصيتين ، فبينما لم يكن كيسنجر ليغامر بغزو العراق وإسقاط نظامه كما فعلت إدارة بوش الابن، فإن هاس، الذي عارض حرب العراق منذ البداية، قدم قراءة أكثر واقعية: بالقول أن إسقاط نظام دون وجود بديل واضح يفتح أبواب الفوضى ، وهو يرى أن الحرب على العراق كشفت حدود القوة الأمريكية بدلًا من تعزيزها، في حين أن كيسنجر، في سياقه التاريخي، كان يرى في استخدام القوة وسيلة أساسية لإعادة ضبط ميزان القوى.
اما فيما يخص مسألة إيران، ظل كيسنجر ينظر إليها كلاعب يجب احتواؤه عبر الردع والتوازن، دون كثير من الميل لفكرة الحوار المباشر، إلا إذا تم من موقع قوة ، بينما يميل هاس إلى فكرة التفاوض المشروط والانخراط الدبلوماسي، ليس بدافع المثالية، بل لأن واقع النظام الدولي اليوم يجعل الانعزال أو المواجهة المباشرة غير مجدية في كثير من الحالات.
في حين يبقى القاسم المشترك بين الرجلين هو اقتناعهما بأن الشرق الأوسط ليس قابلاً للحلول الجذرية السريعة، بل هو منطقة تحتاج إلى إدارة أزمات طويلة الأمد ، ولكن بينما يمثل كيسنجر جيل الواقعية الصلبة القائمة على المصالح العارية، يعكس هاس جيل الواقعية الأكثر مرونة، التي تحاول الجمع بين المصالح والقيم حينما يكون ذلك ممكنًا.
وبالنسبة لكيسنجر فقد ترك وراءه إرثًاً من اتفاقات السلام الباردة، وتوازنات سكت عنها الزمن لكنها عادت لتنفجر لاحقًا ، أما هاس، فلا تزال أفكاره قيد التفاعل، وقد تكون مساهمته الكبرى في أنه دقّ ناقوس الخطر من أن الإصلاح الداخلي في العالم العربي لم يعد ترفًا، بل ضرورة استراتيجية.









