-
℃ 11 تركيا
-
3 أغسطس 2025
د. لبيب جار الله المختار يكتب: ريتشارد هاس والحرب على العراق
د. لبيب جار الله المختار يكتب: ريتشارد هاس والحرب على العراق
-
10 يوليو 2025, 8:20:56 ص
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
ريتشارد هاس والحرب على العراق
عندما يُستحضر اسم ريتشارد ن. هاس (Richard N. Haass) في سياق السياسة الخارجية الأمريكية، فإن الحديث لا يدور فقط حول دبلوماسي ومفكر سياسي رفيع، بل عن أحد أبرز العقول التي ساهمت في تشكيل السياسات الأمريكية في حقبة ما بعد الحرب الباردة، وخاصة تلك المتعلقة بالشرق الأوسط ، وبينما كانت حرب العراق عام 2003 إحدى أكثر المغامرات الجيوسياسية إثارة للجدل في التاريخ الأمريكي المعاصر، فإن موقف هاس من هذه الحرب كان جديرًا بالاهتمام، سواء عندما كان داخل الإدارة الأميركية أو بعد مغادرته لها.
تتناول هذه المقالة موقف ريتشارد هاس من الحرب على العراق، من زاويتين: الأولى، موقفه أثناء فترة التحضير والتخطيط للحرب وهو يشغل منصب مدير التخطيط السياسي في وزارة الخارجية الأميركية؛ والثانية، موقفه النقدي بعد اندلاع الحرب، وتحليلاته العميقة التي قدمها في كتبه ومحاضراته، والتي شكلت مراجعة فكرية جريئة للسياسات الأميركية تجاه العراق والمنطقة عمومًا.
ريتشارد هاس: خلفية فكرية ودبلوماسية :
ولد ريتشارد هاس عام 1951، وتخرج في جامعة أوبرلين ثم حصل على الدكتوراه من جامعة أكسفورد ، ويعد ريتشارد هاس من الدبلوماسيين المخضرمين ، وصوتًا بارزًا في السياسة الخارجية الأمريكية، وقائدًا ومديرًا ذا مكانة مرموقة في دوائر السياسة الخارجية ، واصبح كذلك رئيساً لمجلس العلاقات الخارجية (ويعد مجلس العلاقات الخارجية واحد من أوائل مؤسسات الفكر والرأي الأمريكية أذ تأسس عام 1921) كما يتمتع الدكتور هاس بخبرة حكومية إضافية واسعة النطاق ،وكان مساعداً خاصاً للرئيس جورج بوش الأب ومديراً رفيع المستوى لشؤون الشرق الأدنى وجنوب آسيا ضمن طاقم مجلس الأمن القومي ، وعمل سابقًا في وزارتي الخارجية والدفاع وكان مساعدًا تشريعيًا في مجلس الشيوخ الأمريكي ، كذلك عمل مديرًا لتخطيط السياسات في وزارة الخارجية، أذ كان يدير طاقم تخطيط السياسات وكان مستشارًا رئيسيًا لوزير الخارجية كولن باول ، كما عمل أيضًا كمنسق أمريكي للسياسة تجاه مستقبل أفغانستان ومبعوث أمريكي لعملية السلام في أيرلندا الشمالية .
موقفه من حرب العراق داخل الإدارة الامريكية :
رغم أن ريتشارد هاس لم يكن من صقور الحرب في إدارة بوش، إلا أنه كان مطلعًا عن كثب على تفاصيل النقاشات الدائرة في الإدارة حول غزو العراق ، وقد أقر لاحقًا أنه لم يكن جزءًا من "دائرة صنع القرار" المباشرة التي كانت تقودها شخصيات مثل نائب الرئيس (ديك تشيني) ووزير الدفاع (دونالد رامسفيلد) ومستشارة الأمن القومي (كوندوليزا رايس).
وقد أوضح هاس أن موقفه كان معارضًا للحرب، وأنه عبّر عن هذا الموقف داخل الإدارة، لكنه لم يكن له تأثير حاسم على قرار الذهاب للحرب ، بل وصفه لاحقًا بـ"الحرب التي اختيرت"، على خلاف حرب أفغانستان التي اعتبرها "حرب ضرورة" بعد هجمات 11 سبتمبر.
وفي مقابلات لاحقة، قال هاس إنه في يناير\ كانون الثاني 2003، توصل إلى قناعة تامة أن إدارة بوش قد قررت بالفعل غزو العراق، وإن كل ما كان يجري بعد ذلك من تحركات في الأمم المتحدة أو دبلوماسية مع الحلفاء لم يكن إلا لشرعنة قرار تم اتخاذه سلفًا.
الفكر الواقعي ونقد الحرب :
ينتمي ريتشارد هاس إلى المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية ، وهي مدرسة تحذر من الأوهام الأيديولوجية، وتؤمن بأن السياسة الخارجية يجب أن تُبنى على المصالح القومية، وليس على محاولات نشر القيم بالقوة ، وقد انعكس هذا التوجه في انتقاده الحاد لحرب العراق، التي رأى أنها مثال صارخ على انفصال السياسة الخارجية الأميركية عن الواقعية الاستراتيجية.
وفي مقالاته ومحاضراته، عبّر هاس عن أن إدارة بوش ارتكبت خطأين كبيرين:
الاول : المبالغة في تقييم التهديد العراقي ، أذ جرى تضخيم خطر أسلحة الدمار الشامل رغم غياب الأدلة القاطعة.
الثاني : سوء تقدير تبعات الاحتلال ، إذ لم يكن هناك تصور دقيق لما بعد الإطاحة بصدام حسين، وهو ما أدى إلى فراغ أمني واسع، وانفجار طائفي، ونشوء جماعات متطرفة كـ"القاعدة في العراق" ومن ثم "داعش".
كتابه "حرب الضرورة، حرب الخيار" :
في عام 2009، نشر هاس كتابه المهم "War of Necessity, War of Choice"، وفيه يقارن بين حرب الخليج الأولى 1991 (التي عمل فيها ضمن فريق بوش الأب) وحرب العراق 2003، اعتبر الأولى "حرب ضرورة" لأنها جاءت ردًا على غزو الكويت، بينما وصف الثانية بأنها "حرب خيار"، لم تكن مبررة استراتيجيًا ولا قانونيًا.
يرى هاس أن الخطأ الجوهري في حرب 2003 لم يكن في التنفيذ فحسب، بل في الفكرة نفسها ، فالهدف من إسقاط النظام العراقي لم يكن مرتبطًا بخطر مباشر، بل نابعًا من رغبة في إعادة تشكيل الشرق الأوسط ، وهي فكرة قال إنها "وهمية وخطيرة".
الدروس المستخلصة: من العراق إلى العالم :
من أهم إسهامات ريتشارد هاس بعد الحرب، تأكيده على استخلاص الدروس، ليس فقط بشأن العراق، بل حول الكيفية التي تصنع بها الولايات المتحدة قراراتها المصيرية ، وقد حذّر في أكثر من مناسبة من:
1- غياب النقاش الداخلي المتعدد الأصوات داخل الإدارة الأميركية .
2- تجاهل التحذيرات الخارجية من الحلفاء والمؤسسات الدولية .
3- إضعاف النظام الدولي نتيجة اتخاذ قرارات أحادية الجانب .
وأكد هاس أن فقدان المصداقية التي لحقت بالولايات المتحدة نتيجة فشلها في العثور على أسلحة دمار شامل، أسهمت في تراجع مكانتها العالمية، وخلق فجوة ثقة لا تزال تدفع ثمنها حتى اليوم .
ريتشارد هاس بعد العراق: دبلوماسي في زمن الأزمات :
بعد استقالته من وزارة الخارجية في عام 2003، وكرئيس لمجلس العلاقات الخارجية، ظل هاس أحد أبرز الأصوات العقلانية في السياسة الخارجية الأميركية ، وقد كتب عشرات المقالات والكتب، ومن أبرزها:
The Reluctant Sheriff* (1997(
Foreign Policy Begins at Home* (2013(
The World: A Brief Introduction* (2020(
وفيها جميعًا، دافع عن مقاربة تقوم على الانخراط الذكي، واحترام التعددية، وتحقيق التوازن بين القوة والمبادئ، والتفريق بين الحروب الضرورية والحروب الاختيارية.
شهادة من الداخل :
تبرز أهمية موقف ريتشارد هاس من حرب العراق ليس فقط لأنه مفكر بارز، بل لأنه كان شاهدًا من الداخل على واحدة من أكثر اللحظات خطورة في السياسة الخارجية الأميركية ، وقد امتلك شجاعة القول إن ما جرى كان خطأً استراتيجيًا فادحًا، وكان يمكن تجنبه لو تحلت الإدارة بالمزيد من الواقعية والنقد الذاتي .
لقد تحول هاس بعد الحرب إلى أحد أبرز رموز مراجعة الذات في السياسة الأميركية، وكرّس جهده لفهم أسباب الخطأ وتحذير الأجيال المقبلة من تكراره ، وفي عالم لا يزال مضطربًا، تظل رؤيته بمثابة دعوة إلى "واقعية استراتيجية" تحكمها المصالح لا الأوهام، والحكمة لا الاندفاع .






