د. محمد إبراهيم المدهون يكتب: هشيم جدعون أمام حجارة داوود

profile
  • clock 5 يوليو 2025, 9:14:24 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01
د. محمد إبراهيم المدهون يكتب: هشيم جدعون أمام حجارة داوود

 

في معركة تتجدد فيها أساطير الصراع بين الحديد والحجر، تقف غزة شامخة كقلعة لا تُهزم، تتحدى جحافل "عربات جدعون" التي تحمل في طياتها عنجهية القوة ووهم الحسم. إنها ليست مجرد مواجهة عسكرية، بل صراع وجودي بين إرادة لا تنكسر وصلف يدّعي القدرة على الانتصار. بين هشيم الحديد المتعجرف وحجارة داوود الثابتة، يتجلى المعنى الحقيقي للصمود، حيث لا يُقاس النصر بالأدوات، بل بالعزيمة التي تضيء دروب الحرية رغم الدمار. في هذه الساحة، يصبح الحجر رمزًا لأمل لا ينطفئ، والحديد مجرد رماد سرعان ما يتلاشى أمام إرادة شعب يحمل في قلبه تاريخًا من الكفاح والكرامة.

 

مقلاع داوود

في ذروة العدوان، وبين دخان الاجتياحات ومحارق الأبرياء، لم تكن غزة فقط تئن تحت القصف، بل كانت تضرب في العمق. ففي الوقت الذي أعلنت فيه عصابات الابادة عن عمليتها التوراتية "عربات جدعون"، كانت المقاومة الفلسطينية تطلق على ردّها اسم "حجارة داوود" كعنوان لعملياتها المتصاعدة. لم تكن التسمية رمزية فحسب، بل تحولت إلى وقائع ميدانية قاسية على جيش الاحتلال، الذي فقد خلال أسبوع واحد أكثر من عشرين جنديًا، في سلسلة كمائن أربكت وحداته وأفقدته توازنه. أظهرت الكتائب المقاتلة مرونة ميدانية وجرأة في القتال، مما كشف ضعف الجندي المحصن حين يُنتزع من خلف درعه الحديدي. من هنا، يجب أن تُستثمر هذه النجاحات العملياتية في تثبيت خيار المقاومة كنهج عملي، وتفعيلها إعلاميًا وسياسيًا، لتعزيز الإيمان الشعبي بفاعليتها، ولتحقيق اختراق في وعي الداخل والخارج حول قدرة هذا الخيار على تغيير المعادلة.

تفكيك الأسطورة 

ليست "عربات جدعون" مجرد عنوان عسكري، بل هي انعكاس لنزعة استعمارية تخلط بين الديني والسياسي، وتستحضر الأسطورة التوراتية لتبرير الإبادة. هذه الحملة التي تتغلف بالرموز، تخفي عنصرية التخطيط وإرهاب الدولة. من هنا، يبرز الواجب الفلسطيني في تفكيك هذه الرمزية وكشف بعدها التوراتي العنصري أمام الرأي العام العالمي، مقابل تسليط الضوء على "حجارة داوود" كرمز مقاوم يعيد سردية الفلسطيني من الضحية إلى الفاعل، ويؤسس لخطاب تحرري جامع تتجاوز رمزيته الجغرافيا واللغة.

 

إعادة إنتاج النكبة 

 

لقد أرادت إسرائيل من "عربات جدعون" إعادة إنتاج النكبة، لا عبر الاجتياح وحده، بل عبر اقتلاع الإنسان وذاكرته ووعيه. فالجريمة لم تكن فقط قصفًا، بل مشروعًا متعدد الأذرع: من التهجير الصامت، إلى المساعدات المشروطة، إلى الهيمنة الرقمية على السكان بالبصمة البيومترية. هذه السياسات لا بد أن تُوثق وتُصنَّف كجرائم هندسة ديموغرافية ممنهجة، ويجب حشد الجهد القانوني الفلسطيني والدولي لإفشال أي صيغة لممرات آمنة أو إدارات بديلة تُراد لتقنين التهجير، وتكريس الاحتلال بوجه إنساني زائف.

الوهم المبدد

 

انكشفت في هذه المعركة فجوةٌ صادمة بين تصورات الاحتلال وميدان التنفيذ. فالمجتمع لم ينكفئ، ولم تنهر الحاضنة، بل أعادت إنتاج ذاتها من وسط الركام. فشلت مشاريع الإدارات البديلة، وانهارت فرضيات العزل، ولم تفلح أدوات القمع والحرب النفسية في كسر ارتباط الناس بمقاومتهم. لهذا، يجب أن تتعزز النماذج المجتمعية في غزة، وأن تُستثمر التجربة الشعبية في تعزيز الصمود، وإعادة الاعتبار للمبادرات الأهلية، والإغاثة المستقلة، باعتبارها درعًا وطنيًا في مواجهة الاختراقات السياسية والإنسانية.

حائط الصد

تحوّلت غزة، رغم المجازر، إلى جدار صدّ استراتيجي. لم تُهزم معنويًا، بل بنت خطوط دفاع نفسية ومجتمعية، من الإعلام الموحّد إلى التكافل الشعبي. هذه الدينامية المجتمعية لا بد من ترسيخها في الخطاب الإعلامي والسياسي الفلسطيني، لتكون جزءًا من نظرية المقاومة لا على الجبهة فقط، بل في كل بيت ومؤسسة ومدرسة. إن دعم الشباب والقيادات المحلية والمبادرات العفوية يعزز المنظومة المجتمعية ويمنع تسلل الفتنة، ويؤسس لبنية تحتية وطنية قادرة على صدّ الحروب النفسية والإعلامية المقبلة.

فرصة تتجدد 

ومن تحت الرماد، تولد الفرصة. إذ لم تستطع حكومة الاحتلال الفاشية انتزاع استسلام سياسي، ما يفتح الباب أمام مشروع وطني متجدد. يجب أن نغتنم هذه اللحظة لإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية على أسس ديمقراطية تمثيلية تنهي الانقسام وتوحد القرار. على الإقليم أن يخرج من مربع الصمت إلى مربع الفعل، برفض صيغ التطبيع وكشف زيف الرواية الصهيونية. أما دوليًا، فعلينا استثمار التبدلات الجيوسياسية والانحدار في الهيمنة الأميركية، وتوسيع شبكات التحالف مع القوى والشعوب المناهضة للاستعمار، وبناء جبهة رأي عام دولية داعمة، لا فقط لقضيتنا، بل لحقنا في الوجود.

رواية الخلاص

لم تكن "عربات جدعون" سوى محاولة صهيونية أخرى لفرض الهيمنة بالقوة، لكنها تهاوت أمام الإنسان الفلسطيني الذي لم يُهزم، والحجر الذي ما زال يقاوم. لقد فعلت الحجارة، كما في الأسطورة، فعلها في الحديد، لا لأنها أقوى ماديًا، بل لأنها مشبعة بتاريخ، محروسة بإيمان، محمولة على أكتاف شعب لا ينسى ولا يُفرّط. في غزة، حيث الدمار يُشبه يوم القيامة، ثمة شعب يكتب بفُتات جسده رواية الخلاص. وهكذا، وبينما تلهث "جدعون" وراء نصر زائف، تظل حجارة داوود تكتب، لا نهاية الحرب، بل بداية عصر جديد لفلسطين...
فصلٌ لا يكتبه المنتصرون وحدهم، بل يكتبه الموجوعون الذين لم يُهزموا، والشهداء الذين لم يموتوا.


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
التعليقات (0)