محمد إبراهيم المدهون يكتب: ابتزاز.. وقف المحرقة بمكافأة القتلة

profile
د. محمد إبراهيم المدهون كاتب ووزير فلسطيني سابق
  • clock 4 يوليو 2025, 7:35:48 ص
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

تمرّ القضية الفلسطينية في لحظة مفصلية يعاد فيها هندسة المشهد الفلسطيني بدماء الغزيين، وتُطبخ التسويات على نار المجازر. لا يشبه هذا الزمن شيئًا من سابقه: عالمٌ يتواطأ بالصمت، وعربٌ يتفرجون من خلف ستار الخوف والمصالح، واحتلال يعيد تعريف نفسه كـ"ضحية تسعى للسلام" بعد أن مزّق الأطفال والبيوت. في هذا الزمن الكالح، لا مكان للحياد، ولا وقت للرماد، فإما أن نكون شهودًا على اندثار مشروع تحرري، أو بناة وعيٍ جديد يحفظ ما تبقى من شرف الهوية وكرامة الدم الفلسطيني.

في ظل فشل الاحتلال الصهيوني في تحقيق حسم عسكري شامل في غزة، انتقل النتن ياهو إلى اعتماد استراتيجية "التغلغل الأمني" كبديل عن الاجتياح المباشر، مستندًا إلى أدوات استخبارية معقدة، واغتيالات صامتة، واستثمار الانقسامات الاجتماعية. هذه الاستراتيجية تُعيد إنتاج الاحتلال الأمني الذي يركّز على تفكيك الحاضنة الشعبية للمقاومة وتفريغ المشروع التحرري من مضمونه، كما جرى سابقًا في لبنان والضفة الغربية. فبدلًا من الانتصار في الميدان، يسعى الاحتلال إلى تفكيك الجبهة الداخلية عبر أدوات الحرب النفسية والاقتصادية والسياسية، وفرض وقائع ميدانية تعيق إعادة التماسك الوطني.

غزة اليوم أمام لحظة اختبار وجودي يتجاوز القتل اليومي والمجازر المتكررة. فالمعركة القادمة لن تُحسم بالصواريخ وحدها، بل بإرادة المقاومة على إعادة تنظيم جبهتها الداخلية والانفتاح على مشروع وطني شامل يعيد بناء التمثيل الفلسطيني على أسس تحررية. خيار الانكماش أو الارتهان للتفاهمات الإقليمية لن يُحصّن المقاومة، بل سيعجّل بتفتيت بنيتها وظهور بدائل هشة تتماهى مع سياسات التطبيع والتنسيق الأمني. وحده ترسيخ الثقة بين الشعب والمقاومة، وإعادة تفعيل الحاضنة الاجتماعية الواعية، يمكن أن يشكّلا خط الدفاع الأول في مواجهة هذا التفكيك التدريجي.

السلطة الفلسطينية من جانبها تُمعن في الغياب، وتستمر في الرهان على مسار تفاوضي مفرغ تجاوزه الواقع منذ سنوات، بينما يتفاقم التنسيق الأمني في الضفة ويغيب المشروع الوطني الجامع. تجاهل مبادرات إعادة بناء منظمة التحرير، والإصرار على إدارة المشهد بخطاب وظيفي ضيق، يجعل السلطة خارج معادلة التأثير وفي طريق الإنهيار السريع مع خطوات ضم الضفة الغربية المتسارعة والمسعورة، بل ويفتح المجال لتفكك أكبر في الجبهة الوطنية لصالح مشاريع تفتيت القضية.

ما يُطرح اليوم من مقترحات دولية وعربية تحت عنوان "وقف إطلاق النار"، لا يتجاوز كونه جزءًا من مقايضة كبرى: تهدئة مشروطة مقابل إعمار محدود، وتفكيك المقاومة مقابل فتح معابر، في محاولة لفرض نموذج "لبناني دون ظهير" على غزة. هذه الصفقة غير المعلنة تختزل في معادلتين خطيرتين: "التهدئة مقابل استسلام تدريجي"، و"الإعمار مقابل التطبيع"، ضمن بيئة دولية وإقليمية ترعى السيطرة غير المباشرة على غزة عبر أدوات إدارية وأمنية وظيفية.

رغم إدراك الكاتب أن ما يُطرح هو ابتزاز مقنّن، ومقايضة فادحة بالدم والكرامة، إلا أنه لا يرى مناصًا من التعامل البراغماتي معها كضرورة مؤقتة لوقف نزيف الدم اليومي الذي يفتك بأهلنا، ولتجاوز مرحلة التجويع اللاأخلاقي الذي شرعنته الإدارة الأمريكية تحت ستار "مساعدات إنسانية" تديرها مؤسسات موت لا حياة، وتُغمس بالدم لا بالضمير. القبول المشروط بالهدنة قد يكون جسرًا ضروريًا لترميم الجبهة الداخلية والحاضنة المجتمعية، وإيقاف حالة الانفلات التي غذّتها عصابات الإبادة بعصابات السرقة، عملاء التنسيق، وقطاع الطرق الذين أصبحوا أدوات رخيصة بيد الاحتلال. هذه المقاربة لا تعني الانحناء، بل الالتقاط الذكي للحظة ترتيب الصفوف واستعادة الوعي الجمعي، تمهيدًا لجولة قادمة من التحرر والمواجهة.

الاحتلال من جانبه يعيش حالة ارتباك داخلي عميق، في ظل أزمات سياسية ومالية تهدد تماسك مشروعه الاستيطاني، مع تراجع الثقة الشعبية، وتقديرات أمنية تتحدث صراحة عن "أزمة وجودية" متصاعدة. ورغم هذا، يستغل النتن ياهو مشهد الحرب لتصدير نفسه كزعيم قادر على صناعة "سلام قسري"، مستخدمًا الإعلام لتجميل صورته بينما يوظف المجازر كورقة تفاوضية إقليمية على حساب الدم الفلسطيني.

أما إدارة ترامب، فتتبنى سياسة أشد وقاحة في استثمار المحرقة الفلسطينية ليحصل على مكافأة جائزة نوبل، وتسعى لتوظيف ملف غزة كجزء من صفقة إقليمية أوسع تعيد ترتيب الشرق الأوسط عبر توسيع التطبيع وربط الإعمار بمصالح استراتيجية واقتصادية. هذا النهج، القائم على عقلية "رجل الأعمال المصارع"، يعكس رؤية سطحية للصراع الفلسطيني، ويتعامل مع القضية كملف وظيفي قابل للتجزئة، لا كمأساة تحررية تاريخية تستحق العدالة.

الدول العربية في معظمها، إما غارقة في حسابات التطبيع أو مكتفية بوساطات شكلية، دون موقف موحد صلب. التركيز على المصالح الضيقة، والخشية من تباين المواقف مع واشنطن وتل أبيب، جعلا من الموقف العربي هشًا وعاجزًا عن مواجهة المشروع الصهيوني، بل أحيانًا شريكًا ضمنيًا ضامنًا في تمرير حلول تصفوية.

أما المجتمع الدولي، فلا يزال يتعامل مع القضية الفلسطينية بمنطق البيانات الرمادية، دون إجراءات رادعة تُلزم الاحتلال بالقانون الدولي. الاكتفاء بالدعوة إلى وقف النار وتقديم المساعدات، دون إدانة واضحة أو ضغط فعلي، يجعل المنظومة الأممية شريكة بشكل غير مباشر في إدارة المحرقة، ويقوّض الثقة الشعبية بها بوصفها أدوات عدالة.

في هذا المشهد المركّب، تُختبر غزة لا فقط كميدان عسكري، بل كمفصل تاريخي يُعيد تعريف المشروع الفلسطيني، ويكشف من مع الحق الفلسطيني في التحرر والدولة ومن عليه. إن الصمود في هذه المحرقة لا يمكن أن يكون مجرد فعل تلقائي، بل يجب أن يترافق مع مشروع سياسي تحرري، وخطاب وطني جامع، وتحالفات حقيقية تعيد إنتاج القوة الفلسطينية في وجه مشاريع التفكيك. إن ما يُطبخ اليوم على نار الدم، لا يواجه فقط بالبندقية، بل بالعقل والوعي والإرادة الجماعية التي ترفض الرضوخ، وتتمسك بالحق وتعيد للقضية الفلسطينية مكانتها التحررية في وجه مشاريع الابتزاز والمقايضة.

إن هذه المرحلة، رغم ظلمها وظلامها، قد تكون بداية وعي جديد يعيد تعريف النضال الفلسطيني من نقطة الصفر كما تقاتل غزة، ليس على قاعدة "البقاء على قيد الحياة"، بل على قاعدة "الحياة بكرامة أو الشهادة على طريق الحرية". فلا هدنة توقف إرادة، ولا إعمار يعوّض وطنًا، إن لم تكن فلسطين حرة من البحر إلى النهر، حاضرةً في الوجدان، وراسخةً في الوعي والميدان.


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
التعليقات (0)