د. محمد إبراهيم المدهون يكتب: صفقة غزة ومقايضة التطبيع

profile
د. محمد إبراهيم المدهون كاتب ووزير فلسطيني سابق
  • clock 29 يونيو 2025, 9:32:06 ص
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

يعتمد هذا التحليل السياسي على متابعة لما يُنقل عن الإعلام العبري من تصريحات وتقارير رسمية، في ظل غياب المصادر العربية الميدانية والرسمية، التي تظل على هامش المشهد الفلسطيني والإقليمي المتشابك. من خلال هذه المتابعات، تتضح أجندات صهيوأمريكية حول غزة وأفق صفقة التهدئة التي تُحضّر في الكواليس، والتي تحمل في طياتها تداعيات استراتيجية عميقة على مستقبل القضية الفلسطينية وعلى مسار التطبيع الإقليمي.

تشهد الكواليس السياسية الإسرائيلية–الأميركية تحركات متسارعة لعقد صفقة إقليمية جديدة تُطرح بوصفها "وقف إطلاق النار" في غزة، لكنها في جوهرها تمهيد لإعادة هيكلة المشهد السياسي في الشرق الأوسط، قائمة على مقايضة "التطبيع مقابل الإعمار"، دون أي اعتراف بالحقوق الفلسطينية. تزامناً مع تنسيق زيارة النتن ياهو المرتقبة إلى واشنطن، وإطلاق سراح أسرى، تبدو الصفقة شاملة، تشمل دولاً أخرى مثل السعودية ولبنان وإندونيسيا، في سياق مشروع لتوسيع "اتفاقيات إبراهيم" وتثبيت النفوذ الصهيوأميركي في المنطقة.

داخل دولة الاحتلال، يُبرز خطاب رسمي متصلب؛ سموتريتش يدعو صراحة لتوسيع اتفاقيات التطبيع، ورفض الدولة الفلسطينية بوصفها "دولة إرهابية"، في محاولة لتفريغ أي تسوية من بعدها السياسي، وحصرها في مطالب أمنية. النتن ياهو، الذي يخوض معركة بقاء على المستوى الداخلي وسط محاكمة قضائية، يسعى لجعل نهاية الحرب "إنجازاً" يعزز صورته ويرمم تحالفاته، وهو ما تجسده دعوات ترامب المتكررة لوقف محاكمته باعتباره "بطل الحرب" وضرورة إنقاذه لتثبيت السلام الإقليمي.

على الصعيد العسكري، تعترف المؤسسة الأمنية الاحتلالية بأن العمليات البرية فقدت زخمها، وأن الاستمرار دون قرار سياسي قد يُجهض ما تحقق ميدانياً. لكن أصوات التطرف تظل حاضرة، كما في دعوات منع المساعدات الإنسانية كوسيلة للضغط. في ظل أزمة مالية تهدد استمرار التمويل، وندرة الذخائر الحيوية، تبدو غزة مجرد ساحة اختبار لمعادلة صهيونية معقدة: كيف تحقق مكاسب سياسية دون أن تُجرّ إلى انهيار داخلي أو مواجهة إقليمية شاملة؟

في هذا الإطار، ينظر ترامب الحالم بجائزة نوبل إلى غزة كفرصة لاستكمال مشروعه للسلام الإقليمي عبر توسيع التطبيع، مستثمراً الضغط السياسي والمالي على الدول العربية لتمويل إعادة الإعمار مقابل تقبل شروط صهيونية صارمة. لكن المعضلة الأساسية تكمن في أن "وقف إطلاق النار" لا يعني "وقف المقاومة"، وأن أي تسوية لا تنزع شرعية المقاومة الفلسطينية ستعتبر مجرد استسلام مؤجل. لذلك تسعى الصفقة إلى إعادة هندسة غزة من الداخل، لتهميش المقاومة وإخراجها من الحكم، وتشكيل إدارة فلسطينية جديدة تحت إشراف مشترك عربي–صهيوأميركي، بما يُحيل القضية الفلسطينية إلى إطار أمني وسياسي لا يخدم مصالح التحرر الوطني.

تتجاوز المفاوضات ملف الأسرى لتشمل شروط إنهاء الحرب وطبيعة مرحلة ما بعد التهدئة، حيث تلعب المقاومة دوراً محورياً في إفشال أو فرض شروط الصفقة. هذا التعقيد يجعل الساحة الفلسطينية في مواجهة مباشرة مع مشاريع التطبيع، وسط مخاطر تصعيد إقليمي واسع واشتباكات غير محسوبة.

تُظهر التطورات أن نهاية الحرب على غزة مرتبطة بصفقة شاملة تعكس ميزان القوة الجديد، وتنسجم مع المشروع الإقليمي الأكبر لتوسيع اتفاقيات إبراهيم، وإخراج القضية الفلسطينية من صلب الصراع. في ظل هذا المشهد، تبدو شخصية النتن ياهو محوراً لا غنى عنه للصفقة، حيث ترتبط "إنقاذه" من الملاحقة القضائية باستقرار (إسرائيل) داخلياً وخارجياً، وتمهيد الطريق لتوقيع اتفاقيات تطبيع مع دول كبرى، أبرزها السعودية، وصولاً إلى تقاعده السياسي المرتقب.

في المقابل، تأتي تصريحات خافتة من المقاومة، مثل الأمين العام لحزب الله، لتؤكد أن خيار المواجهة مستمر ولن يُترك للنفس الطويل، ملوحين بأن التصعيد الصهيوني لن يمر بلا رد، وأن الثبات على خيار "النصر أو الشهادة" هو الموقف الثابت. وفي هذا السياق، فإن الصفقة ليست مجرد اتفاق لوقف إطلاق النار، بل مقايضة كبرى تعيد رسم خريطة الصراع في الشرق الأوسط، وتضع القضية الفلسطينية في مواجهة مباشرة مع موجة التطبيع التي تُحاول محاصرة أي أفق للتحرير الوطني.

أمام هذا الواقع، تبقى غزة على مفترق طرق: هل ستستعيد هويتها كرمز للمقاومة والتحرر، أم تتحول إلى بوابة للقبول بتسويات تستثني جوهر القضية من المعادلة الإقليمية؟ يبقى الفلسطينيون وحدهم من يدفع ثمن هذه الحسابات والمصالح، في معركة ليس فقط على وقف الحرب، بل على شكل ومستقبل القضية الفلسطينية بأكملها.

 


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
التعليقات (0)