د. محمد إبراهيم المدهون يكتب: غزة.. محرقة بلا أفق إطفاء

profile
د. محمد إبراهيم المدهون كاتب ووزير فلسطيني سابق
  • clock 16 يونيو 2025, 7:48:48 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01
د. محمد إبراهيم المدهون يكتب: غزة.. محرقة بلا أفق إطفاء

غزة، التي تجاوزت حدود الجغرافيا لتغدو رمزًا عالميًا للمقاومة، تُصارع اليوم واحدة من أكثر الحروب فظاعة في العصر الحديث. منذ ما يقرب من سنتين، ومحرقة مفتوحة تُرتكب على مرأى العالم، حيث تمعن آلة الاحتلال في القتل والتدمير، بلا خطوط حمراء، ولا مساءلة. وبين ميدان مشتعل، ومشهد سياسي مأزوم، تبدو نهاية هذه الكارثة أبعد من أي وقت مضى. هذا المقال يحاول تفكيك تعقيدات المشهد، وقراءة أسباب الإطالة، وسُبل الخروج، إن وُجدت.

في ختام سنتها الثانية، تتواصل المحرقة الصهيونية ضد قطاع غزة بلا هوادة، مدفوعة بأجندات استعمارية وأوهام أمنية، فيما يرزح أكثر من مليوني فلسطيني تحت وطأة حرب إبادة ممنهجة، استهدفت الإنسان والأرض والبنية والروح، وخلّفت كارثة إنسانية غير مسبوقة. وبرغم الضغط الدولي الشعبي المتصاعد، والقلق الرسمي المتزايد، لا تزال نقطة النهاية لهذه المجازر بعيدة المنال، في ظل تشابك ميداني وسياسي داخلي وخارجي يزيد من تعقيد المشهد.

رغم الإدانات اللفظية من بعض القوى الدولية، تُصرّ حكومة الاحتلال اليمينية المتطرفة على استخدام القوة العارية، مستندة إلى دعم أمريكي وغربي، متجاهلة المطالبات بوقف الحرب، طالما ظلت ترى في استمرار العدوان وسيلة لتحقيق "مكاسب استراتيجية" أو "ردع وهمي". ومع ذلك، لا يمكن إغفال أثر الخسائر البشرية الفادحة والدمار الواسع على حسابات صُنّاع القرار في تل أبيب، حيث بدأت كلفة الحرب تتجلى اقتصاديًا وإنسانيًا وحتى أمنيًا.

في الميدان، تواصل المقاومة الفلسطينية الباسلة عملياتها النوعية، رغم الفارق الهائل في الإمكانيات، وتثبت مجددًا أن غزة لم ولن تُكسر بالإبادة. وقد فشلت دولة الاحتلال، حتى الآن، في تحقيق أي أهداف حاسمة، مما يُظهر أن العدوان لم يعد خيارًا مضمون النتائج، بل أصبح مأزقًا سياسيًا وأمنيًا متجددًا. وكما في جولات سابقة، قد تلجأ دولة الاحتلال إلى "مخرج تفاوضي" تحفظ به ماء وجهها، بعد أن تعجز عن كسر إرادة المقاومة.

أما عربيًا، فالصورة لا تقل قتامة. الانقسام العربي تجاه العدوان يكشف هشاشة الموقف الرسمي، حيث تنشغل بعض الدول بحسابات ضيقة، وتكتفي أخرى بتصريحات خجولة، بينما تغيب الاستراتيجية المشتركة القادرة على تشكيل ضغط حقيقي. وفي المقابل، تتصدر شعوب العالم المشهد مجددًا، بصوتها وغضبها، لتُعيد التأكيد أن فلسطين لا تزال في وجدان الحرية الإنسانية.

داخليًا، تعاني الساحة الفلسطينية من شرخ سياسي مؤلم، طال أمده، بين القوى والفصائل، وعلى رأسها حركتا فتح وحماس، وهو ما يعيق بناء موقف وطني موحد في وجه العدوان. فبينما يخوض الميدان معركته المصيرية، تظل ساحات السياسة مرهونة بحسابات فصائلية ضيقة، ما يُضعف الحضور الفلسطيني على طاولة التفاوض الإقليمي والدولي.

إلى جانب ذلك، يفاقم الاحتلال الوضع الإنساني في غزة بشكل متعمد، مستهدفًا المستشفيات والمدارس، ومانعًا دخول الغذاء والدواء، وارتكاب مجازر وإذلال ممنهج للجوعى، فيما يُعد جريمة حرب موثقة بكل المعايير القانونية والإنسانية. هذا الواقع المفجع يجعل من أي حديث عن تهدئة مؤقتة أمرًا ناقصًا، ما لم يُقترن بخطوات جادة لمعالجة جذور الصراع، وأهمها: الاحتلال، والحصار، واللاجئون، والقدس ودولة فلسطينية.

ومما زاد المشهد تعقيدًا، عدوان دولة الاحتلال على إيران، عبر عمليات هجومية تستهدف العمق الإيراني، وما تبعه من ردود إيرانية على الأراضي الفلسطينية المحتلة. هذا التصعيد الإقليمي الواسع لا يُهدد فقط بانفجار المنطقة، بل يعمّق عزلة القضية الفلسطينية داخل دوائر الصراع الكبرى. فقد باتت غزة تدفع ثمنًا مضاعفًا، إذ تحوّلت إلى ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية، ووجدت إسرائيل في الحرب مع إيران ذريعة لإطالة أمد عدوانها، وتبرير استمراره تحت غطاء "الأمن القومي". وبهذا، تتراجع فرص التهدئة أكثر فأكثر، وتغدو محرقة غزة معقّدة بثقل جبهات خارج حدودها.

وعلى صعيد متصل، تُعد مفاوضات صفقة تبادل الأسرى أحد أبرز المسارات التي تعطلت بفعل تعنت حكومة نتنياهو وإصرارها على ربط الملف الإنساني بالملف العسكري، رافضة الدخول في تسوية حقيقية تُنهي معاناة الأسرى والمحتجزين من الجانبين. وقد اتضحت بجلاء رغبة نتنياهو في مواصلة الإبادة، حتى على حساب الرهائن الإسرائيليين أنفسهم، وهو ما أثار انقسامًا داخل مجتمع دولة الاحتلال، وأضعف موقف الحكومة سياسيًا وأخلاقيًا. إن تعطيل صفقة التبادل يعكس أولويات حكومة الاحتلال، التي تفضل استمرار المحرقة على حساب الحلول السياسية، مهما كانت تكلفتها البشرية.

إن إنهاء هذه المحرقة لا يمكن أن يتحقق إلا عبر ضغط دولي مُنسّق وجاد، تُمارسه الأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي، والدول المؤثرة مثل مصر وقطر وتركيا، للجم العدوان وفرض وقف شامل لإطلاق النار. ولكن الأهم هو توافر آليات رقابة حقيقية تضمن التزام الاحتلال بالهدنة، وتمنع تكرار دورات الدم.

ولأن أي حل نهائي يبقى بعيدًا دون مصالحة فلسطينية داخلية حقيقية، فإن أولوية الأولويات اليوم هي بناء وحدة وطنية جامعة تُعيد ترتيب البيت الفلسطيني من الداخل، وتعزز قدرة الشعب على مقاومة الاحتلال سياسيًا وشعبيًا وميدانيًا.

ختامًا، ستبقى غزة صامدة، وستبقى المعركة مفتوحة ما دامت الحقوق الفلسطينية تُغتال تحت غبار القصف والمساومة. أما دولة العدوان، فستبقى تعاني مأزقًا أخلاقيًا واستراتيجيًا، كلما طال أمد الحرب. إن لم يتحرك العالم لفرض حل عادل، فإن البركان سيبقى مشتعلًا، لا يهدأ إلا بتحقيق الحرية والعدالة والكرامة لهذا الشعب الذي لم يُهزم، ولن يُهزم.

لن تنتهي هذه المحرقة بتهدئة هشة، ولا بمناورة سياسية جديدة. إن وقف هذا النزيف يتطلب ما هو أكثر من صمت دولي أو بيانات شجب: يتطلب مواجهةً حقيقيةً لجذر الصراع، وجرأة على مساءلة الاحتلال، وتوحيدًا للصف الفلسطيني، وإرادةً عربيةً تخرج من دوائر التطبيع والمصالح الضيقة. فإما أن نخط طريقًا نحو حرية غزة والقدس وإقامة دولة فلسطين، أو نواصل الدوران في جحيم الدم.

"والله غالب على أمره"

 

التعليقات (0)