غزة تقف كمرآة تعكس هشاشة النظام الدولي

د. محمد إبراهيم المدهون يكتب القيامة: غزة المنسية على مفترق

profile
د. محمد إبراهيم المدهون كاتب ووزير فلسطيني سابق
  • clock 16 يونيو 2025, 12:13:42 م
  • eye 418
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01
تعبيرية

في قلب مأساة إنسانية لا مثيل لها، تقف غزة المنسية كرمز للصمود والتحدي في وجه آلة الإبادة. هنا، حيث تلتقي الألم بالثبات، تتجلى حقيقة القهر الدولي وصراع الإرادات، لتبدأ رحلة قيامةٍ تستعيد بها غزة بوصلة الوعي والكرامة الإنسانية.

 

في قلب الجغرافيا العربية، تقف غزة ليس فقط كمكان محاصر وإنما كمرآة تعكس هشاشة النظام الدولي وأخلاقياته المتهاوية أمام مشهد الإبادة الجماعية التي ترتكب بدم بارد. بينما تتوالى المجازر ويتعمق الحصار لتخنق أنفاس الحياة، تصمت القوى الكبرى وتتنصل من مسؤولياتها، فيما يُسحق القانون الدولي تحت وطأة المصالح الجيوسياسية التي تبرر الصمت أو التواطؤ. لم تعد إسرائيل بحاجة إلى شعارات الدفاع عن النفس، إذ منحها الدعم الأمريكي العلني غطاءً مطلقًا لاستعمال التجويع والتدمير كسلاح استراتيجي، ما فضح فشل المجتمع الدولي في كسر الحصار أو تأمين المساعدات الإنسانية، وكشف هشاشة المنظومة القانونية الدولية التي باتت أداة لتصفية الحسابات لا لحماية الضحايا. فالمحكمة الجنائية الدولية، رغم وجودها، تواجه عرقلة صريحة من واشنطن، بينما تُستخدم المساعدات في غزة كأداة إذلال وقتل استخباراتية، لا كوسيلة إنقاذ تُجسد روح التضامن الإنساني.

 

في مواجهة هذا الفشل الرسمي، تبرز قوافل الصمود الشعبي كرسالة أمل تشتعل عبر الحدود، فقد انتفضت شعوب أوروبا عبر سفينة مادلين، وتونس والمغرب والجزائر، متجاوزة تقاعس الأنظمة الرسمية، لتثبت أن التاريخ لا تصنعه الحكومات وإنما الإرادات الجماهيرية التي لا تنكسر. قافلة الصمود المغاربية التي واجهت التجويع والاعتقال في طريقها نحو غزة، أعادت إحياء النبض الشعبي العربي الذي طالما فاق أداء الحكومات المتخاذلة، مُرسلةً رسالة صمود وتضامن لا تقتصر على الحدود الجغرافية بل تتعداها إلى وجدان الأمة.

 

أما على الأرض الفلسطينية، فقد تحولت المحرقة إلى حرب على الروح الوطنية نفسها، إذ لجأت عصابات الإبادة بعد استنفاد أدوات القتل التقليدية إلى تفكيك البنية الداخلية لغزة عبر تشكيل وتمويل عصابات مسلحة موالية كعصابة "ياسر أبو شباب"، في تحالف خطير بين الاحتلال وأجهزة السلطة الفلسطينية، نموذجٌ جديد من "الفوضى المدمرة" يهدف إلى اغتيال المقاومة من الداخل وإضعاف وحدة الصف الوطني. ورغم هذا السعي الممنهج، يواجه الغزيون هذا المشروع بوعي حاد ورفض شعبي صلب، محافظين على لحمتهم وصمودهم كحصن لا يُخترق.

 

تتخذ خان يونس وجباليا والشجاعية في هذا السياق بعدًا مختلفًا، فهي أكثر من مدينة محاصرة، بل رمزٌ للكرامة الحضرية والمقاومة المستميتة، حيث تذوب الجغرافيا في عمق المعركة النفسية، وتتحول بأسلحتها البسيطة وتكتيكاتها الذكية إلى بؤرة لتوازن رعب جديد يُرهق آلة الحرب الإسرائيلية التي تتفوق عدة وتكنولوجيًا. هذا الصمود المتواصل يعيد تعريف مفهوم المقاومة في زمن الانكسارات والخيبات، ويحول غزة إلى أيقونة للنضال الذي لا ينكسر رغم كل الجراح.

 

في الجانب الآخر، تتعمق الأزمة الوجودية داخل المجتمع الصهيوني، فمع تصاعد القصف وتوالي المجازر، تنهار السردية الأخلاقية التي بنت عليها الدولة العبرية صورتها، ويتصدع الوعي الجمعي بين الجلاد والضحية، في وقت أصبحت فيه القيادة تخشى ليس فقط المقاومة بل القلق الداخلي المتزايد، وهو تهديد أكثر رعبًا من أي قوة خارجية.

 

على الصعيد الإقليمي، تشهد المنطقة إعادة تشكيل قسرية لجيوسياساتها، حيث تستخدم عصابات الإبادة الدعم الأمريكي والغربي لتحييد إيران من معادلة الصراع عبر ضربات استخباراتية تستهدف قادة الحرس الثوري والعقول النووية، ما أظهر هشاشة أمنية إيرانية وكشف التوازن الهش الذي تعتمد عليه المقاومة الفلسطينية. هذه التغيرات الإقليمية تلقي بظلالها على التحالفات والدعم، مما يستوجب إعادة تقييم استراتيجية المقاومة وسط انسحاب بعض مظلات الدعم الإقليمي.

 

في ظل هذا الفراغ الإقليمي، تواصل عصابات الاستيطان توسيع مغتصابتها في الضفة الغربية، وتسعى لفرض واقع سياسي جديد يحول القضية الفلسطينية إلى ملف ثانوي في أجندة العالم العربي، بينما تتحول الأنظمة الرسمية في معظمها إلى أدوات صامتة أو منصات للهيمنة الغربية. تبقى غزة الضحية الكبرى، والميدان الأخير الذي يتحدد فيه مصير القضية العربية برمتها.

 

تصاعد الأوضاع في غزة لا يقتصر على مواجهة محلية، بل يمتد إلى نزاع إقليمي يتشابك فيه البُعد العسكري والسياسي والديني، وسط خطر متزايد لانفجار حرب إقليمية شاملة. وفي ظل استراتيجية المقاومة القائمة على الاستنزاف وحرب الكمائن، تصبح غزة مرآة لصراع عالمي متشابك مع البرنامج النووي الإيراني والتوازنات الدولية المتقلبة. يفضح ازدواجية المعايير الدولية والتواطؤ المفضوح، ويسلط الضوء على المظالم الصامتة، كمعاناة الفقراء والمجتمع المدني وسرقة المساعدات الإنسانية التي تحولت إلى لعبة قذرة. في هذا السياق، تتحول محاولات إعادة هندسة القضية الفلسطينية من خلال مؤتمرات دولية باهتة، كـ"مؤتمر نيويورك"، إلى مسرحية سياسية تهدف إلى تفريغ القضية من جوهرها وإملاء حلول تستهدف نزع سلاح المقاومة وفرض رؤى سياسية هشة.

 

في النهاية، تؤكد هذه المشاهد الدموية أن غزة لم تعد مجرد ساحة معركة عادية، بل منصة لصياغة معادلة إقليمية وإنسانية جديدة، تعيد طرح السؤال المحوري: هل ما زالت فلسطين بوصلة الوعي العربي والتحرري العالمي، أم أن المشروع الصهيوني بدأ يحقق اختراقه الكامل؟ تبقى الإجابة رهن تراكم نضالي جديد، يعيد الاعتبار للدور الشعبي ويؤسس لجبهة عربية دولية تحررية موحدة تدرك أن تحرير فلسطين ليس مجرد شعار، بل مشروع إنقاذ للمنطقة والإنسانية بأسرها من الطوفان الاستيطاني المتجدد.

 

غزة ليست فقط ساحة معركة، بل نقطة فاصلة في مسار الحرية والكرامة العربية والإنسانية. على مفترق الطريق، بين الذل والاستسلام أو النضال والقيامة، تبقى غزة منارة أمل لا تنطفئ، تستدعي وقفة ضمير ومواجهة حقيقية للنظام الدولي الجائر.

التعليقات (0)