محمد إبراهيم المدهون يكتب: إيران بين الردع والاستئصال

profile
د. محمد إبراهيم المدهون كاتب ووزير فلسطيني سابق
  • clock 15 يونيو 2025, 1:42:06 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

في قلب الصراع الإقليمي المتصاعد، تقف إيران على مفترق طرق بين سياسة الردع الاستراتيجي والحرب الشاملة التي تسعى إسرائيل والولايات المتحدة إلى فرضها لاستئصال نفوذها. تواجه طهران تحديات معقدة، داخلية وخارجية، حيث تحاول الحفاظ على توازنها الأمني والسياسي وسط ضغوط عسكرية واقتصادية متزايدة. هذه المواجهة المستمرة ترسم ملامح مستقبل المنطقة، وتؤكد أن خيار الردع وحده قد لا يكون كافيًا للحفاظ على استقرار إيران، وسط مخاطر تصعيد محتمل يحمل في طياته تحولات جذرية يصعب التكهن بنتائجها.

 

تتوالى فصول المواجهة المركبة بين (إسرائيل) وإيران في سياق إقليمي شديد الاضطراب، حيث تتداخل فيه أطراف دولية وقوى محلية في مشهد يعكس اختلال ميزان القوة التقليدي وتفكك قواعد الاشتباك التي حكمت الصراع لعقود. هذه المواجهة لم تعد محصورة في التصريحات أو الضربات المحدودة، بل تحولت إلى نمط صدام مفتوح يحاول كل طرف فيه فرض معادلة ردع جديدة دون الانزلاق إلى حرب شاملة، في لعبة دقيقة تتقاطع فيها الاستراتيجيات الأمنية بالرهانات السياسية والضغوط الاقتصادية. ففي الوقت الذي تسعى فيه (إسرائيل) إلى استعادة هيبتها المفقودة بعد صدمة السابع من أكتوبر وتثبيت نفسها كقوة إقليمية قادرة على توجيه ضربات استراتيجية إلى العمق الإيراني، تدرك أن استمرار هذا النهج يحمل في طياته خطر تآكل صورتها الردعية، خصوصًا إذا أخفقت في فرض نتائج ملموسة على سلوك طهران أو على مشروعها النووي.

أما إيران، التي تعتبر نفسها مستهدفة وجوديًا، فتتعامل مع كل عدوان على أنه جزء من مشروع أمريكي-(إسرائيلي) مشترك يستهدف إضعافها وتفكيك قدرتها على التأثير الإقليمي. غير أن حسابات الرد الإيراني محكومة بموازنة دقيقة بين الرغبة في الحفاظ على الهيبة الاستراتيجية وتجنب الانجرار إلى مواجهة شاملة قد تعيد عقارب تطورها الاقتصادي والسياسي إلى الوراء. هذا التوازن الصعب يبقي طهران في مساحة ضبابية بين الانكفاء الظاهري والرد المحدود الموجه بدقة، ما يضمن استمرار دورها الإقليمي دون التحول إلى نقطة اشتعال كبرى.

 

في خلفية هذا الصراع، يتقدم العامل الاستخباراتي بوصفه سلاحًا رئيسًا، حيث تتباهى (إسرائيل) بقدرتها على اختراق العمق الإيراني، وهو ما تجسد في سلسلة عمليات نوعية شملت اغتيالات وتفجيرات وتخريب منشآت نووية. في المقابل، تسعى طهران إلى امتصاص هذه الضربات داخليًا لتأكيد الحاجة إلى "الصلابة الثورية" في مواجهة التهديدات الخارجية. هذه المواجهة غير المعلنة تفرز نمطًا جديدًا من الحروب، لا تعتمد على المواجهات التقليدية بين جيوش، بل تتكئ على أدوات هجينة تشمل الطائرات المسيّرة، الهجمات السيبرانية، الحرب الإعلامية، والتخريب الداخلي، مما يجعل الصراع أكثر اتساعًا وغموضًا.

تتأثر الأطراف الإقليمية بحيوية، ففي ظل الضغوط المتزايدة، يعاني حزب الله من ضغوط داخلية واقتصادية تحد من هامش تحركه، في حين تتعرض قواعده لهجمات (إسرائيلية). يدرك الحزب خطورة الانزلاق إلى مواجهة شاملة في توقيت غير ملائم، لا سيما مع تراجع الدعم الشعبي والأزمات الاقتصادية في لبنان، ما يدفعه إلى تبني استراتيجية ضبط النفس، متخذًا دور المراقب أكثر من المبادر. بالمقابل، تواجه (إسرائيل) مخاطر الانكشاف على جبهات متعددة، فكل ضربة ضد إيران تفتح رد إيراني مع احتمالية جبهات رد من سوريا، العراق، اليمن، أو الداخل الفلسطيني، مما يحول سياساتها الهجومية إلى سلاح ذو حدين.

موقف أنصار الله 

وفي هذا الإطار، يبرز موقف أنصار الله في اليمن كجزء من المحور المقاوم، حيث يواصلون دعمهم لغزة. يساهم أنصار الله عبر قدراتهم الصاروخية والطائرات المسيرة في توسيع جبهات الرد على العدوان، مما يثقل كاهل الحلف المناهض لإيران ويعزز من دور طهران الإقليمي.

في المشهد الإقليمي الراهن، تعاني إيران من ضغوط تتصاعد بين خيار الردع أو الاستئصال، حيث تسعى (إسرائيل) إلى تفتيت سوريا وتقويض نفوذ طهران عبر ضرب حلفائها في المنطقة. تلعب دول الطوق العربية دورًا مؤلمًا في هذا الصراع، فهي لا تكتفي بتوفير غطاء سياسي وأمني للاحتلال، بل تتحول عمليًا إلى أدوات لحماية الكيان الصهيوني، من خلال منع وصول القوافل والإغاثة إلى غزة واعتراض الصواريخ التي تستهدف الاحتلال، على حساب أمن شعوبها. هذه المواقف تعكس خيانة واضحة لمصالح الأمة، وتسهم ضمنيًا في استمرار محرقة غزة والعدوان على إيران.

أما العامل الأمريكي، فيبقى حجر الزاوية في الحسابات المعقدة، إذ تتحرك تل أبيب مع مراعاة حدود الدعم الأمريكي ومتى قد يتحول إلى قيد. الولايات المتحدة، رغم دعمها الثابت ل(إسرائيل)، ترفض الانخراط في حرب مفتوحة جديدة في الشرق الأوسط، خصوصًا مع أولوياتها الاستراتيجية في آسيا وأوروبا، والتكلفة السياسية والعسكرية لأي تورط عسكري مباشر. هذا التردد يدفع (إسرائيل) إلى اعتماد عقيدة "الضرب حتى حافة الهاوية"، محاولة فرض وقائع جديدة دون تجاوز الخطوط الحمراء التي قد تستفز واشنطن أو تُحرج حلفاءها الإقليميين.

يلعب الاقتصاد دورًا محوريًا، إذ إن أي تصعيد حاد بين (إسرائيل) وإيران ينعكس على أسواق الطاقة العالمية، خاصة النفط، في وقت يعاني فيه الاقتصاد العالمي من اضطرابات تضخمية ومخاوف انقطاع سلاسل الإمداد. هذا يضع ضغوطًا على العواصم الكبرى لممارسة سياسة احتواء مزدوجة: منع انفجار شامل مع السماح بتسجيل نقاط تكتيكية هنا وهناك. ولكن هذه "الاحتواء الرمادي" هش، وأي خطأ في الحسابات قد يؤدي إلى تفجير الوضع واندلاع حرب لا يمكن التنبؤ بمسارها.

في المحصلة، لا يبدو أفق التسوية بين إيران و(إسرائيل) قريبًا، فكل طرف يتحرك وفق تصوراته الخاصة للردع والمكانة والشرعية، في ظل نظام دولي يقل فيه الحسم وتزداد فيه إدارة الأزمات بدلًا من حلها. وتظل الشعوب العربية والإيرانية هي الخاسر الأكبر، حيث تدفع أثمانًا باهظة من الدماء والدمار والاقتصاد. في هذه اللحظة الحرجة، يقف الشرق الأوسط على حافة تحول كبير قد يعيد رسم توازنات القوة أو يغرق المنطقة في موجة جديدة من عدم الاستقرار. بين العقائدية العنصرية في تل أبيب والعقائدية الصامدة في طهران، يتجلى أن الصراع لم يعد مجرد نزاع حول مشروع نووي أو حدود جغرافية، بل حول هوية المنطقة ومستقبلها


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
التعليقات (0)