د. محمد إبراهيم المدهون يكتب: تجويع غزة: إبادة ممنهجة صامتة

profile
د. محمد إبراهيم المدهون كاتب ووزير فلسطيني سابق
  • clock 30 مايو 2025, 5:04:37 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01
الجوع في غزة

في محرقة غزة، حيث يموت الناس بصمتٍ أكثر فتكًا من الصواريخ، صار الجوع سلاحًا، والحصار مقصلة، والهواء نفسه أداة قتل. هنا لا تُطلق الرصاصات، بل تُسحَب اللقمة من أفواه الأطفال، وتُقطَع الأنفاس عن المستشفيات، ويُترك مليونان من البشر يصارعون الموت البطيء تحت أعين العالم. هذه ليست مجاعة… إنها إبادة باردة، تُنفَّذ على مهل، وبدم بارد.

 

في قطاعٍ محاصر منذ أكثر من ثمانية عشر عامًا، لم يعد الجوع مجرد أثر جانبي للحرب، بل تحوّل إلى سلاح فتاك يُستخدم عمدًا ضد أكثر من مليوني إنسان. وفقًا لتقارير برنامج الأغذية العالمي (WFP) الصادرة في أبريل 2025، يعاني 90% من سكان غزة من انعدام الأمن الغذائي الحاد، فيما يُحذر مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) من مجاعة كارثية تهدد نصف السكان، خاصة الأطفال.

 

المأساة هنا ليست ناتجة عن كارثة طبيعية، بل عن سياسة منظمة من الاحتلال الصهيوني، الذي يستخدم الحصار والتجويع كأداة إبادة جماعية صامتة. ومنع الغذاء والدواء، إلى جانب تدمير البنية التحتية الزراعية والصحية، يشكّل عناصر جريمة واضحة وفقًا لاتفاقية جنيف الرابعة.

 

الحصار المفروض برًا وبحرًا وجوًا منذ 2007، لا يقتصر على منع دخول الغذاء، بل يشمل الوقود، الكهرباء، الدواء، مواد البناء، وحتى قوارب الصيد. ومع كل عدوان عسكري، يُستهدف ما تبقى من البنية التحتية، كما يحدث في محرقة غزة بإبادة المشافي، حيث وثّقت منظمة الصحة العالمية مقتل عشرات المرضى والأطباء بسبب القصف والحصار الطبي.

 

بحسب تقارير منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف)، فقد أعلن وفاة عدد من أطفال غزة بسبب الجوع، ويعاني أكثر من 50% من أطفال غزة من سوء التغذية الحاد، ونقص الحديد، والزنك، والفيتامينات الأساسية. لا يعود هذا فقط لنقص المساعدات، بل أيضًا لانهيار القطاعات الإنتاجية المحلية: المزارع مدمّرة، قوارب الصيد محاصَرة، والمصانع مشلولة. وحتى المساعدات الإنسانية، يمنع الاحتلال وصولها وهي متكدسة في الجانب المصري من معبر رفح.

 

رغم تقارير مجلس حقوق الإنسان التي تصف الحصار بأنه عقوبة جماعية، ورغم تحذيرات المحكمة الجنائية الدولية من أن التجويع يمكن أن يُصنَّف كجريمة حرب، فإن المجتمع الدولي يكتفي بإدانات لفظية، فيما تستمر الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بدعم (إسرائيل) سياسيًا وعسكريًا.

 

إن المسؤولية هنا لا تقع فقط على “العالم” كفكرة عامة، بل تحديدًا على الأطراف الفاعلة:

  • مجلس الأمن الدولي، الذي يعطل قرارات ملزمة بسبب الفيتو الأميركي.
  • الاتحاد الأوروبي، الذي يواصل شراكاته التجارية مع الاحتلال.
  • الدول العربية، التي تفتقر إلى موقف موحد وضاغط حقيقي.

 

لمواجهة هذه الإبادة الصامتة، لا يكفي توزيع سلال غذائية أو إرسال بيانات شجب. المطلوب:


1️⃣ حملة دولية قانونية: رفع ملفات موثقة للمحكمة الجنائية الدولية بجرائم استخدام التجويع كسلاح حرب.
2️⃣ عقوبات اقتصادية محددة: الضغط على الاتحاد الأوروبي لتعليق اتفاقيات التجارة مع إسرائيل حتى رفع الحصار.
3️⃣ جبهة عربية موحدة: تشكيل لجنة طوارئ عربية دائمة لتنسيق الإغاثة وكسر الحصار عبر الضغط الدبلوماسي والميداني.
4️⃣ دعم الإنتاج المحلي: تمويل مشاريع زراعية ومائية داخل القطاع لتقليل عملية الابتزاز اللاأخلاقية التي يمارسها الاحتلال.

 

إن ما يجري في غزة اليوم هو اختبار حقيقي لإنسانية العالم: إما أن تنتصر القيم والضمائر الحيّة، أو أن يُترك شعبٌ بأكمله يموت جوعًا أمام شاشات العالم. المجاعة ليست قدرًا، بل قرار، ويمكن كسره بإرادة حقيقية، وتحرك جاد، وموقف لا يكتفي بالتنديد، بل يواجه الجريمة بالعقوبة، والقاتل بالمحاسبة. فغزة لا تحتاج إلى شفقة، بل إلى عدالة. ولا تطلب الخلاص من الموت، بل من القتل البطيء. وكل لحظة تأخير في إنقاذها، هي وصمة عار جديدة تُكتب في تاريخ البشرية.

 

التعليقات (0)