-
℃ 11 تركيا
-
24 يونيو 2025
د. محمد إبراهيم المدهون يكتب: معركة الأيام الاثني عشر: ميلاد بين النار والتفاوض
د. محمد إبراهيم المدهون يكتب: معركة الأيام الاثني عشر: ميلاد بين النار والتفاوض
-
24 يونيو 2025, 9:38:46 ص
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
شهدت الأيام الاثني عشر الماضية تصعيدًا عسكريًا غير مسبوق بين إيران و(إسرائيل)، ترافق مع تحركات دبلوماسية مكثفة شكّلت معًا مسرحًا معقدًا يعكس جوهر الصراع في الشرق الأوسط اليوم. لم تكن هذه الجولة مواجهة عسكرية بين طرفين فقط، بل ولادة لمرحلة جديدة تمتزج فيها لغة القوة بالنقاش السياسي، وتتداخل فيها الرغبة في الردع مع الحاجة إلى تهدئة محسوبة.
تُظهر هذه المعركة أن المنطقة تقف على مفترق طرق؛ بين نار التصعيد التي تهدد بفتح جبهات أوسع، وهمس التفاوض الذي يسعى للحفاظ على التوازن وتقليل الحروب، خاصة في ظل محرقة غزة وقضايا الاستقرار الإقليمي الكبرى. في هذه القراءة السياسية، نستعرض تداعيات المعركة من زاوية عسكرية ودبلوماسية، ونرصد نقاط القوة والضعف لدى الأطراف الفاعلة لنفهم كيف يمكن أن تمثل هذه الجولة نقطة انطلاق لمراحل جديدة من الصراع أو الحلول.
عاش الشرق الأوسط مؤخرًا على حافة هاوية حقيقية، مع تصاعد المواجهة بين إيران والاحتلال الإسرائيلي وتدخل الولايات المتحدة عسكريًا في مشهد تعقدت فيه مصالح القوى الكبرى. بدا وكأن المنطقة تتجه نحو صراع إقليمي شامل، لا سيما بعد العدوان الأمريكي على مشاريع المفاعلات النووية، وقدرة إيران على إطلاق صواريخ باليستية وفرط صوتية اخترقت أنظمة الدفاع الأمريكية والإسرائيلية وأحدثت انهيارًا لمنظومة الدفاع والجبهة الداخلية في دولة الاحتلال، في حين تشير التقديرات إلى فشل الضربات الجوية القاسية في تحقيق أهدافها النووية المعلنة.
ورغم حجم العدوان، لم تُهزم إيران، بل أظهرت مرونة استراتيجية في إدارة الردع، وحافظت على إيقاع محسوب للردود دون الانزلاق إلى حرب شاملة. أثبتت إيران أن موقعها الجيوسياسي يؤهلها للبقاء كدولة ارتكاز إقليمي، وأن وعيها الاستراتيجي المتحرر من العاطفة مكّنها من تجاوز التصعيد الأخير مع الحفاظ على أوراق قوتها، رغم تراجع نفوذ حلفائها في سوريا ولبنان وغزة.
كانت كل المؤشرات تشير إلى حرب استنزاف طويلة تُعيد تشكيل قواعد الاشتباك الإقليمي والدولي، لكن تدخلات دبلوماسية من أطراف مثل قطر وروسيا، وضغوط صينية عبر باكستان، دفعت الأطراف إلى مخرج محسوب بعناية: وقف مفاجئ لإطلاق النار أعلنه ترامب، بعد استهداف القاعدة الأمريكية في "العُديد" بقطر، ورشقة إيرانية ختامية على كيان الاحتلال.
الإخراج الإعلامي والعسكري كان منضبطًا بدقة: قُصفت القاعدة، تراجعت إيران بعد دقائق، أُعلن وقف إطلاق النار، وترك لكل طرف مخرجًا مشرفًا يحفظ ماء وجهه. يعكس هذا تطبيقًا صارمًا لقاعدة "عدم إحراج الخصم" في إدارة الأزمات، حيث يُمنح الطرف الآخر فرصة التراجع دون إذلال قد يدفعه إلى رد فعل غير محسوب.
في المقابل، تعاني دولة الاحتلال من تصدع داخلي متسارع. الإنهاك المتراكم، وسقوط منظومة الردع، والانهيار المعنوي داخل الجبهة الداخلية، يعكس أزمة أعمق تتجاوز الجوانب العسكرية إلى جوهر المشروع الصهيوني ذاته. وفي غزة، الضربات التي وُصفت بالقاسية لم تُنهِ وجود حماس، ولم تُحرر الرهائن، بل كشفت هشاشة الكيان أمام خصم بحجم غزة. وبعد أكثر من 626 يومًا على حربها المستمرة ضد غزة، بدأت القيادات العسكرية تعترف ضمنيًا بفشل الأهداف المعلنة. تصريح قائد المنطقة الجنوبية في جيش الاحتلال بأن "ما لم يتحقق خلال عشرين شهرًا، لن يتحقق لاحقًا" شكل صفعة للسردية الرسمية، وسط تصاعد غضب عائلات المختطفين وتراجع ثقة الجمهور بالمؤسسة الأمنية.
وجدت (إسرائيل) نفسها في مرآة الطوفان، متراجعة على الصعيد الدولي، ومكشوفة داخليًا أمام هشاشة منظومتها الأمنية والسياسية، وأمامها مرحلة اضطرارية لإعادة تقييم جذرية. أما إيران، فرغم الخسائر، رسخت نفسها كقوة عقلانية تمارس الردع بدلًا من المغامرة بالانتحار، لكنها ما تزال تواجه تحديات أمنية ومعلوماتية لا يمكن تجاهلها.
وسط هذه التحولات الجيوسياسية، تعود غزة لتكون مركز المعادلة من جديد. وكما بدأت الشرارة منها، يبدو أن الخاتمة السياسية ستمر عبرها. تثبيت وقف إطلاق النار بين إيران والاحتلال، إذا تحقق، سيمهد لمرحلة جديدة بعنوان: "غزة أولًا". وقد يتبع ذلك انتخابات مبكرة يهندسها نتنياهو في (إسرائيل) لتثبيت ما يسميه "نصرًا رمزيًا" وتنقذه سياسيًا وقضائيًا.
ومن هنا، قد تتبلور في الأفق رؤية أمريكية لتسوية تبدأ من غزة، تمنح حماس دورًا سياسيًا محدودًا داخل نظام فلسطيني جديد يشبه إلى حد ما نموذج حزب الله في لبنان. أما ما تبقى من الضفة الغربية، فسيُربط إداريًا وماليًا بغزة ضمن سلطة معاد تشكيلها، فيما تبقى القدس والمناطق المصنفة "C" خلف أسوار الاستيطان والضم. وقد يُطلق على هذه الصيغة تسمية رمزية مثل: "دولة فلسطين العظمى – عاصمتها غزة المدمرة"، بينما ستبقى قضية الدولة الفلسطينية مجرد ملهاة سياسية للأقطاب عبر مؤتمرات، و"طبخة حصى" لن تسد رمق الجوعى في فلسطين.
لكن وقف إطلاق النار، إن ثبت، لا يعني نهاية الصراع، بل قد يكون هدنة هشة تُخفي تحتها رماد الانفجار القادم. ومع ذلك، هناك مؤشرات متزايدة على أن المنطقة بدأت تدرك تكلفة الحروب، وأن الحل السياسي الجذري القائم على إقامة دولة فلسطينية كاملة السيادة هو المخرج الوحيد لتجنب المزيد من الدمار.
وفي قلب كل هذه التحولات، تبقى غزة – رغم محنتها – أكثر من مجرد جغرافيا. إنها مركز الوعي، ومختبر المنطقة، وعلامة فارقة في إعادة رسم خارطة الشرق الأوسط. وكما قال الشاعر محمود درويش:
"إن سألوك عن غزة، قل لهم: بها شهيدٌ... يسعفه شهيدٌ... يصوره شهيدٌ... يودعه شهيدٌ... ويصلي عليه شهيد."
.jpeg)
.jpeg)
.jpeg)







