-
℃ 11 تركيا
-
3 أغسطس 2025
د. محمد إبراهيم المدهون يكتب: يَتيهون في غزة
غزة عصيّة صلبة تأبى الانكسار.
د. محمد إبراهيم المدهون يكتب: يَتيهون في غزة
-
1 يوليو 2025, 12:27:38 م
-
435
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
تعبيرية
في قلب الرمال المحاصرة، يتكسر غرور القوة على صخرة غزة، حيث لا تنفع الجرافات، ولا تهدي الأقمار الصناعية طريق الخروج من التيه.
الاحتلال يطارد وهم الحسم، لكنه يغرق أعمق في مستنقع الاستنزاف، بلا نصر ولا مخرج، فيما تظل غزة – رغم المحرقة – عصيّة، صلبة، تأبى الانكسار.
مع تجاوز العدوان على قطاع غزة شهرها العشرين منذ اندلاع طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023، تتسع دائرة المأزق الصهيوني، ويتكرس عجز المشروع الصهيوني في واحدة من أكثر المعارك تعقيدًا في تاريخه. تتشابك العوامل السياسية والعسكرية والاقتصادية على نحو يعمّق التيه الصهيوني ويبدد أوهام الحسم.
عسكريًا:
رغم تفوقه الناري المطلق، يفشل الاحتلال في تحقيق حسم ميداني نهائي. القوة الغاشمة اصطدمت ببنية دفاعية متطورة نسجتها المقاومة في الظل، عبر شبكة أنفاق متعددة المستويات، وعمليات متكررة ومتجددة مؤلمة.
أكثر من 32 فرقة مشاة ومدرعة عجزت عن تفكيك بنية المقاومة أو تصفيتها، في مشهد يعيد إلى الأذهان فشل الاحتلال الأميركي في العراق وأفغانستان. وهنا، تتحول معادلة التفوق إلى عبء: كل خطوة عسكرية تُراكم الكلفة وتستنزف الجبهة الداخلية دون جدوى حاسمة.
سياسيًا:
تتآكل شرعية (إسرائيل) على الصعيد الدولي، في ظل الإدانات المتزايدة من المؤسسات الأممية، والتقارير الحقوقية التي وثّقت جرائم الحرب بحق المدنيين في غزة.
في الداخل، يعاني النظام السياسي من تمزق حاد، مع تصاعد الخلاف بين أقطاب اليمين المتطرف حول مستقبل القطاع، ومصير العملية العسكرية، وآفاق ما بعد الحرب.
في الخارج، فقدت (إسرائيل) القدرة على تسويق روايتها الأمنية، وبدأت موجة وعي عالمي غير مسبوقة تفضح النفاق الأخلاقي الغربي، وتعيد الاعتبار للحق الفلسطيني.
اقتصاديًا:
تشير التقديرات إلى أن تكلفة العدوان تجاوزت 70 مليار شيكل حتى منتصف 2025، تشمل نفقات عسكرية مباشرة وخسائر في الإنتاج والسياحة وتكاليف التعبئة المستمرة.
كل سيناريو يُطرح، من إعادة احتلال القطاع إلى إدارة أمنية طويلة الأمد، يعني التورط في مستنقع إداري وإنساني مكلف، وسط تعاظم حملات المقاطعة الدولية، وقلق رؤوس الأموال من مستقبل الدولة ككل.
ارتدادات متسارعة: من خانيونس وجباليا إلى الجبهة الداخلية
بالتزامن مع الإعلان المفاجئ عن وقف إطلاق النار بين إيران ودولة الاحتلال بعد أسابيع من الضربات المتبادلة، تلقّت (إسرائيل) صفعة ميدانية جديدة في خان يونس، حيث قُتل 7 ضباط وجنود من قوات النخبة في كمين محكم يوم 25 يونيو، ما يعكس هشاشة السيطرة حتى في المناطق التي أعلن الاحتلال "تطهيرها". وبحسب مركز عكا للشؤون الإسرائيلية، بلغ عدد القتلى الإسرائيليين خلال أسبوع واحد 20 قتيلًا.
هذا التصاعد الدموي جاء في لحظة حرجة تعيشها الجبهة الداخلية، حيث يتزايد الغليان داخل الشارع الصهيوني، لا سيما في صفوف عائلات الأسرى، التي تعتبر أن حكومة النتن ياهو تضيّع فرصة الصفقة عبر المكابرة السياسية. وتحوّلت تظاهرات تل أبيب إلى احتجاجات ضاغطة تطالب بوقف الحرب والتفرغ لاستعادة الأسرى، وسط شعور متزايد بالعجز والتخبط.
وفي ظل توقف المواجهة مع إيران، ينصبّ تركيز الاحتلال بالكامل الآن على الجبهة الجنوبية، وسط حالة إنهاك استراتيجي وشرخ اجتماعي آخذ بالتعمق، يدفع نحو ضرورة إعادة تقييم الموقف.
هنا تُطرح من جديد وبقوة مسألة اتفاق وقف إطلاق النار مع حماس، سواء كصفقة شاملة تشمل الأسرى، أو كترتيب أمني مؤقت يتيح الخروج من التيه العسكري والسياسي الراهن، خصوصًا في ظل العجز عن تحقيق نصر واضح، وتآكل الرواية الرسمية أمام تصاعد الكلفة وفشل الأهداف.
غزة ليست عبئًا، بل عقدة استراتيجية تتفجر في وجه من يحاول كسرها.
في أفق الحرب:
ورغم أن المشهد يبدو مغلقًا تحت سطوة اليمين الصهيوني، إلا أن تصاعد الضغط الدولي والأممي قد يفرض تسوية قسرية، تشمل وقفًا مؤقتًا لإطلاق النار، أو إشراك أطراف إقليمية في هندسة "اليوم التالي".
لكن هذه الرؤى، من دون معالجة جذرية للكارثة التاريخية التي أنتجت الاحتلال، ستظل حلولًا هشة لا تصمد أمام الوعي الجمعي العالمي والفلسطيني المقاوم.
بالمقابل، تزداد احتمالية تفجر الأوضاع نحو سيناريوهات أكثر فوضوية:
• انهيار إنساني شامل في القطاع في ظل مجاعة متفاقمة
• تمدد المقاومة إلى الضفة والداخل
• اهتزاز الوضع السياسي والأمني في قلب الدولة العبرية
كل هذا يجعل استمرار العدوان خيارًا عبثيًا، يدفع (إسرائيل) إلى مزيد من الغرق في رمال غزة المتحركة، حيث لا خارطة طريق ولا مخرج آمن.
في النهاية، يظل الاحتلال أسير سياسات القتل والابادة الفاشلة، وغزة تظل شاهدًا صامدًا على فشل القوة في مواجهة الإرادة.
(إسرائيل) تتيه في ماضيها المتخم بالدمار، تحاول اقتلاع مدينة لا تموت، بينما الأفق يزداد سدودًا، والتكلفة تتعاظم، لتبقى غزة راسخة في وجه العاصفة.
غزة لا تنكسر. هي تُنهك عدوّها. هي تعيد تشكيل المدى من تحت الرماد.









