-
℃ 11 تركيا
-
16 يونيو 2025
د. محمد إبراهيم المدهون يكتب: ملحمة غزة.. لحظة فارقة للوحدة الوطنية
د. محمد إبراهيم المدهون يكتب: ملحمة غزة.. لحظة فارقة للوحدة الوطنية
-
24 مايو 2025, 2:41:38 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
د. محمد إبراهيم المدهون يكتب: ملحمة غزة.. لحظة فارقة للوحدة الوطنية
تشكل ملحمة غزة محطة تاريخية فارقة في مسار النضال الفلسطيني، إذ تجاوزت كونها مواجهة عسكرية لتصبح لحظة تجديد للوعي الوطني وتعزيز لإرادة الوحدة الشعبية والسياسية. لقد أظهرت هذه المحرقة أنّ الانقسام لم يعد مجرد عثرة سياسية، بل تهديدًا وجوديًا يُضعف المشروع الوطني برمّته. أمام هذا المشهد، تبرز الوحدة الوطنية لا كخيار تكتيكي عابر، بل كضرورة استراتيجية تستدعي مراجعة شاملة لبنية النظام السياسي، وإعادة بلورة مشروع فلسطيني جامع يعيد الاعتبار للثوابت الكبرى، ويُحسن إدارة الصراع مع الاحتلال على المستويات كافة.
لم يعد مصطلح الانقسام في القاموس الفلسطيني توصيفًا عابرًا، بل صار تعبيرًا عن أزمة وطنية عميقة ألقت بظلالها الثقيلة على مشروع التحرر الفلسطيني برمته، حتى كاد يصبح الانقسام ذاته أحد أدوات الاحتلال في إدارة الصراع. ومع ذلك، جاءت ملحمة غزة الأخيرة لتُحدِث هزة تاريخية قلبت المشهد. لم تكن مجرد مواجهة عسكرية محدودة، بل شكلت محطة استراتيجية أعادت تعريف القضية الفلسطينية من جديد، بوصفها قضية تحرر وطني لشعب يقاوم الاحتلال، لا نزاعًا داخليًا بين أطراف متنازعة على السلطة.
هذه اللحظة الفارقة تجاوزت حدود غزة لتشمل وحدة فلسطينية نادرة تجلت في الضفة الغربية حيث تصاعدت العمليات اليومية ضد الاحتلال، وفي القدس التي استعادت مكانتها كقلب المشروع الوطني، وفي أراضي 1948 حيث تبلور مجددًا وعي الصراع، وفي مخيمات اللجوء التي أعادت وصل القضية بجذورها الأصلية، وفي الشتات الفلسطيني الذي نهض بحراك واسع في عواصم الغرب دفاعًا عن غزة وفلسطين. هذه اللوحة الوطنية الجامعة كشفت عن الإمكانات الهائلة الكامنة في الشعب الفلسطيني حين تتوحد ساحاته، لكنها في المقابل سلّطت الضوء على حجم المأزق السياسي الذي يعانيه النظام السياسي الفلسطيني، المأزق الذي لا يزال يُعطل حتى اللحظة الانتقال من وحدة الميدان إلى وحدة السياسة.
تواجه الفصائل الفلسطينية اليوم تحديًا بنيويًا مصيريًا: كيف يمكن تحويل هذه اللحظة الشعبية إلى مشروع وطني مؤسسي؟ القضية لا تتعلق بشعارات الوحدة أو لقاءات الفصائل، بل بإعادة صياغة النظام السياسي برمته، بدءًا من تفعيل منظمة التحرير الفلسطينية كمظلة جامعة، وتجاوز أزمة الشرعية التي يفرضها استمرار التعويل على السلطة في رام الله كواجهة سياسية، مرورًا بتشكيل قيادة مقاومة موحدة تدير ملفات الصراع سياسيًا وعسكريًا وأمنيًا وإعلاميًا، وانتهاءً ببلورة برنامج وطني جامع ينطلق من الثوابت الكبرى: القدس، والعودة، والاستقلال.
ولا يُمكن لهذا المشروع أن يكتمل من دون استيعاب الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية للمحرقة التي تعرضت لها غزة؛ فالدمار الهائل الذي خلفه العدوان ليس مجرد تحدٍّ إنساني، بل هو أيضًا ساحة اختبار للقدرة على ربط إعادة الإعمار بخيارات سياسية صحيحة، بحيث لا يُستغل المأزق الإنساني لإعادة إنتاج الانقسام ولا يُترك ملف الإعمار رهينة بيد المانحين الدوليين وشروطهم. هنا يبرز الدور الحيوي للمجتمع الفلسطيني ذاته: دور الشباب والنساء، الفئات الأكثر ديناميكية، التي لعبت دورًا مركزيًا في الحراك الشعبي وامتلكت قدرة استثنائية على توحيد الرواية الفلسطينية في مواجهة محاولات التشويه الإعلامي والسياسي.
على المستوى الدولي، تشكل هذه اللحظة فرصة غير مسبوقة لإعادة تدويل القضية الفلسطينية بوصفها قضية تحرر، لا صراع حدود أو نزاعات تفاوضية، وهو ما يستدعي دبلوماسية فلسطينية هجومية قادرة على تحويل مكاسب الصمود الشعبي والعسكري إلى مكاسب سياسية وقانونية في ساحات المحاكم الدولية ومؤسسات الأمم المتحدة والرأي العام العالمي. غير أن كل ذلك مرهون بإرادة سياسية فلسطينية موحدة، تدرك أن وحدة الدم لا بد أن تترجم إلى وحدة القرار، وأن الثمن الباهظ الذي دفعته غزة لا يجوز أن يُهدر في حسابات فصائلية أو مصالح سلطوية ضيقة.
لقد وضعت ملحمة غزة الجميع أمام مفترق وجودي: إما ولادة مشروع وطني جديد ينقل الفلسطينيين من مرحلة الانقسام إلى مرحلة الشراكة الكاملة، أو الانزلاق مجددًا في دوامة الصراع الداخلي والتنافس على الشرعية والتمثيل، بما يسمح للاحتلال بإعادة فرض معادلة السيطرة الميدانية والسياسية على كل ساحة فلسطينية على حدة. لا مجال للمواربة: القضية الفلسطينية اليوم أمام لحظة قرار مصيرية، تتطلب التزامًا حقيقيًا بمفهوم الوحدة لا كشعار، بل كإطار مؤسسي شامل يعيد بناء النظام السياسي على قاعدة المقاومة والتحرر، وإلا فإن التاريخ لن يرحم أولئك الذين أداروا ظهرهم لنداء الدم والشعب والقضية. إن غزة، بكل دمائها وتضحياتها، لم تكتب فقط ملحمة صمود، بل حرّرت المعنى الحقيقي للوحدة: أن نكون معًا أو لا نكون أبدًا.










