غزة تقف من جديد في مفترق النكبات

د. محمد إبراهيم المدهون يكتب: غزة في مواجهة مجاعة ممنهجة للتهجير

profile
د. محمد إبراهيم المدهون كاتب ووزير فلسطيني سابق
  • clock 22 مايو 2025, 7:37:43 م
  • eye 435
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01
تعبيرية

في زمنٍ يُستبدَل فيه الخبز بالذل، وتُساق الجماهير الجائعة إلى مراكز إذلالٍ باسم "المساعدات"، تقف غزة من جديد في مفترق النكبات، لا لتنهار، بل لتقول كلمتها الأخيرة: لن نؤكل صمتًا.


هذه ليست مجاعة، بل خطة اقتلاع وتفريغ محكمة، تسير على جثث الكرامة وتتغذى على الخوف. ما يُسمى بـ"مراكز التوزيع" ليست سوى نقاط تهجير مغلفة بالطحين الأميركي، يحرسها الجندي المحتل، ويباركها المخطط الصهيوني، وينفذها "وسيط إنساني" منقوص الضمير. أمام هذا الواقع، ليس أمام غزة سوى أن تُشهر سلاحها الأهم: الوعي والثبات. أن تفهم المؤامرة، وتفضح أدواتها، وتُفشلها بالصبر والتكاتف والإبداع المقاوم.


في هذا المقال، نكشف الحقيقة الكاملة وراء مشروع التجويع، ونرسم خريطة نجاة لشعبٍ يُراد له أن يُستأصل عن أرضه، لا بجرافات الهدم، بل بأكياس الدقيق. هذه معركة وجود… ومع كل لقمة إذلال تُرمى، تولد صرخة: "لن نغادر… سنحيا كرامًا أو أحرارًا".

 

في قلب أتون الظلم والاحتلال، تقف غزة شامخة رغم كل المحن، تواجه اليوم مجاعة ممنهجة ليست مجرد نقص في الغذاء، بل سلاح قاتل يُراد به تهجير شعب بأكمله من أرضه. هذه المجاعة ليست كارثة طبيعية، بل مؤامرة واضحة مدعومة بخطط عسكرية وأمنية تسعى إلى تفريغ الشمال وتحويل أهل غزة إلى لاجئين مهجرين على طرقات التشريد. في هذه اللحظة الفارقة، لا يمكن لغزة أن تقبل أن تكون رهينة لخطط الاحتلال التي تستغل الجوع كسلاح إبادة، ولا أن تنقاد إلى مراكز توزيع يديرها جيش المحتل وشركات أمنية تُنفذ أجندته. موقفنا واضح: لا للتنازل، لا للاستسلام، لا للقبول بخطة التجويع والتفريغ القسري.


في ظل هذا الواقع، يخطط جيش الاحتلال، بدعم شركة أمريكية، لتوزيع المساعدات الغذائية عبر أربعة مراكز في جنوب القطاع، في محاولة واضحة لتركيز السكان في مناطق محددة بهدف تفريغ الشمال والوسط من سكانه كمرحلة أولى في مشروع التهجير القسري. إن دعوة السكان إلى التوجه لهذه المراكز ليست مجرد توزيع مساعدات، بل هي فخ أمني يحمل مخاطر الاعتقال والفصل القسري عن الأرض. لذا فإن أي خطوة نحو هذه المراكز تعني الانصياع لخطة الاحتلال الرامية إلى تقسيم القطاع وتهجير أهله.


في مواجهة هذه السياسات العدوانية، لا بد لغزة أن ترفض هذا التوزيع المشبوه بكل قوة، وأن تضع خطة بديلة تقوم على الاعتماد الذاتي وتعزيز صمود المجتمع الفلسطيني. يبدأ ذلك بتقييم دقيق وشامل للوضع الغذائي في القطاع، لتحديد الفئات الأكثر ضعفًا والأكثر حاجة، ورصد المخزون الغذائي المتاح والأسواق المحلية، مع مراقبة أسعار المواد الأساسية، وذلك لضمان تخصيص المساعدات والموارد لمن هم في أشد الحاجة. بعد ذلك، يجب تحريك قوافل إغاثة مستقلة تُدار من قبل مؤسسات فلسطينية وفعاليات مجتمعية، توزع الغذاء والدواء بعيدًا عن أي هيمنة أمنية أو سياسية للاحتلال، مع إنشاء مخزون استراتيجي في مناطق آمنة لمواجهة الأزمات القادمة، والتشجيع على الزراعة المنزلية والمشاريع الصغيرة للزراعة المستدامة في القطاع.


إن الزراعة المنزلية تمثل أحد أهم أدوات الصمود، حيث يمكن للأسر الفلسطينية أن تحول أسطح منازلها وباحات منازلها إلى حدائق صغيرة تزرع فيها الخضروات والأعشاب الضرورية، مما يقلل من الاعتماد على السوق ويخفف من تأثير النقص الغذائي. يمكن استخدام تقنيات الزراعة الحضرية البسيطة مثل الزراعة في الحاويات وإعادة تدوير المياه، لتوفير احتياجات يومية من الغذاء الطازج، وبكلفة قليلة. كما يجب دعم المزارعين المحليين عبر توفير البذور والمعدات الزراعية المناسبة، وتشجيع استخدام تقنيات الري الموفرة للمياه، ما يضمن زيادة الإنتاج الزراعي المحلي رغم ظروف الحصار والجفاف والتدمير المتعمد.


إلى جانب الجهود المحلية، يجب تكثيف الضغط السياسي والدبلوماسي على الاحتلال لوقف سياسة التجويع. يمكن العمل على فتح قنوات دبلوماسية مع المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة، الصليب الأحمر، والاتحاد الأوروبي، لضمان وصول المساعدات الإنسانية الحقيقية دون رقابة أمنية تخدم الاحتلال. كما ينبغي تنسيق حملات إعلامية دولية تكشف هذه السياسات العدوانية وتثير الرأي العام العالمي، مما يخلق ضغطًا دوليًا يفرض على الاحتلال احترام القوانين الدولية وحقوق الإنسان. على المستوى العربي، من الضروري توحيد المواقف والجهود السياسية والإنسانية لدعم غزة مادياً وسياسياً، ورفع الصوت ضد محاولات التهجير القسري، من خلال تقديم الدعم اللوجستي والاقتصادي للأسر المتضررة، ودعم المشاريع التي تعزز الأمن الغذائي.

 

علاوة على ذلك، يجب استغلال الأدوات القانونية والحقوقية في المحافل الدولية، من خلال رفع قضايا ضد الاحتلال في المحاكم الدولية، وإثبات تورطه في جرائم حرب باستخدام التجويع كسلاح، مما يعزز موقف الشعب الفلسطيني ويزيد من الضغوط على المحتل. كما يمكن للحراك الشعبي العالمي أن يشكل قوة ردع حقيقية، من خلال تنظيم فعاليات تضامنية واحتجاجات عالمية ضد سياسة التجويع والتهجير، مما يزيد من وعي العالم بقضية غزة ويطالب بإنهاء الحصار والاعتداءات.


وفي هذا السياق، نُوجه نداءً مباشرًا إلى أهلنا في غزة: الثباتَ الثبات، والوعيَ الوعي. لا تذهبوا إلى مراكز توزيع الاحتلال، فإنها فخ أمني يحمل بين طياته الاعتقال والإذلال، وهي جزء لا يتجزأ من خطة تهجيرٍ جارية تُراد لها أن تنجح تحت غطاء "المساعدة". لا تسلموا رقابكم ولا قراركم ولا جغرافيتكم لهذا العدو المتربص، ولا تمنحوه شرعية توزيع الجوع عليكم. حافظوا على مواقعكم، واصبروا، فالثبات في الميدان اليوم هو مقاومة، والامتناع عن الذهاب لتلك المراكز هو أول بند في مشروع إفشال خطة التجويع والتهجير  

 

في هذه المعركة التي لا تقل شراسة عن المعارك المسلحة، تكون غزة ليست فقط ساحة للصمود، بل مدرسة في الثبات والإبداع والاعتماد على النفس. فكل بصمة زرع، وكل مشروع صغير، وكل صوت احتجاج ضد الاحتلال، هو رصاصة في قلب مشروع التهجير. وإنها دعوة لكل فلسطيني وعربي وإنساني أن يقف مع غزة، ليس فقط بالكلام أو الدعاء، بل بالعمل الحقيقي والمباشر، لإنقاذ شعب يُذبح بصمت، ويفقد أبسط حقوقه في الحياة، تحت مجاعة ممنهجة يسعى الاحتلال من خلالها لاقتلاع جذوره. لن يكون للصمت مكان بيننا، ولن تكون هناك مساومة على كرامة أهل غزة، فالمجاعة هي سلاح إبادة والرفض هو حق الحياة.

التعليقات (0)