سميح خلف يكتب: البراجماتية الفلسطينية: ماذا حققت؟!

profile
سميح خلف كاتب ومحلل سياسي
  • clock 4 سبتمبر 2025, 11:18:41 ص
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

إذا تحدثنا عن براجماتية التجربة الفلسطينية، فإن العنوان العريض لهذه البراجماتية هو انطلاقة الثورة الفلسطينية بعد النكبة وإرهاصاتها الأولية بأدبياتها وأفكارها ومنطلقاتها ومبادئها كحركة تحرر وطني عمودها الأساسي والارتكازي هو تحرير فلسطين عبر الكفاح المسلح. وهكذا، إذا ذكرنا التجربة الفلسطينية فإننا نعني حركة التحرر الوطني الفلسطيني "فتح" وما تبعها من ملحقات لاحقة.

لقد كان التحول السلوكي في التجربة الفلسطينية تحولًا براجماتيًا أهمل النظام الأساسي لحركة فتح ببعدها التحرري لصالح خيارات أخرى وُصفت بالبراجماتية، أي اللعب ضمن الواقع والإمكانات المتاحة، والسعي إلى تحقيق ما يمكن تحقيقه ولو كان جزءًا بسيطًا من أهداف الشعب الفلسطيني. وبذلك كان الخيار هو تجسيد الهوية الفلسطينية على أي جزء من الأرض الفلسطينية من خلال ما سُمي بـ "الحل المرحلي" عام 1994. وقد ارتبط بذلك صراع داخلي بين "الصقور" و"الحمائم" داخل حركة فتح حول ماهية هذا الجزء وتعريفه. فالصقور تمسكوا بإقامة الدولة على أي جزء محرر دون فرض الاعتراف بدولة الكيان الصهيوني، بينما تبنى الحمائم مقاربة مختلفة.

وفي جزء من التاريخ، ولو قصيرًا، تغلبت الحمائم على صقور فتح، وتم تعميم ثقافة براجماتية نتجت عن عدة أزمات واجهتها حركة التحرر الفلسطيني بدءًا من الخروج من الأردن، ثم الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 وملابسات هذا الانسحاب ومبرراته. كل ذلك أدى باختصار شديد إلى الدخول في اتفاقية أوسلو بحكم ذاتي تحول فيما بعد إلى تراجيديا وفاة الرئيس ياسر عرفات، ثم اندلاع الانتفاضة الثانية، وتملص قادة الكيان الإسرائيلي من التزامات أوسلو بعد اغتيال إسحاق رابين وخلفه شمعون بيريز، إلى أن أصبحت السلطة الفلسطينية تلتزم باتفاقية أوسلو من طرف واحد، وأهمها التنسيق الأمني واتفاقية باريس والعلاقة الاقتصادية مع دولة الاحتلال وبنكها المركزي.

كانت مبررات البراجماتيين الفتحاويين، الذين يقودون منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني بقرار من جامعة الدول العربية في مؤتمر فاس، هي إثبات الهوية وحق تقرير المصير، وقد تُوج ذلك بإعلان الدولة الفلسطينية في الجزائر عام 1988. وفي هذا السياق، اعترفت البراجماتية الفلسطينية بدولة إسرائيل على 78% من أرض فلسطين التاريخية، على أمل أن تكون لهم دولة على أرض ما قبل الخامس من يونيو 1967. وفي اتفاقية أوسلو، اعترفت إسرائيل بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلًا شرعيًا ووحيدًا للشعب الفلسطيني، لكنها لم تعترف بحقه في تقرير المصير أو في دولة مستقلة.

عملت منظمة التحرير الفلسطينية في خياراتها السياسية على تجسيد الهوية الفلسطينية بمحاولة تطوير اتفاق أوسلو إلى دولة، لكن الإسرائيليين كانوا يدركون جيدًا ماذا يريدون وماذا يفعلون، بعكس القادة الفلسطينيين الذين توقف نضالهم عند حدود تجسيد الهوية وحق تقرير المصير. وكان اعتراف منظمة التحرير غطاءً ومخرجًا سياسيًا للعرب للتنصل من التزاماتهم تجاه القضية الفلسطينية باعتبارها قضية تحرير ومقاومة استعمار استيطاني إمبريالي صهيوني على جزء من الأرض العربية. وهكذا لخص العرب موقفهم تجاه الفلسطينيين: "نحن معكم في كل خياراتكم، ساعدناكم عندما كنتم ثورة، وساعدناكم أيضًا عندما اخترتم السلام، وما زلنا معكم في المحافل الدولية، ونساعدكم في تنمية سلطتكم". وهذا ما اختُتم بالمبادرة العربية والتطبيع.

لكن السؤال الجوهري هو: هل أخطأت البراجماتية الفلسطينية وقيادتها أم أصابت؟ وهل فعلاً خيارات تجسيد الهوية الفلسطينية وخيار حل الدولتين يمكن أن توقف المشروع الصهيوني؟ وهل حل الدولتين في صالح الفلسطينيين أم في صالح الطرف الآخر في الصراع؟ إن الأحداث الراهنة وما سبقها تبين أن الخيارات التي رُفعت كانت خطأ وانحرافًا عن الفهم الواعي لأدبيات حركة فتح في تشخيص أسس الصراع وأسبابه. فقد ابتلعت إسرائيل القدس والضفة، واحتلال غزة على الأبواب، بينما ما زلنا نرفع شعار الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية، مع أن 145 دولة في الجمعية العامة اعترفت بالدولة الفلسطينية التي ليست قائمة على الأرض. وفي المقابل، يتصاعد المشروع الصهيوني مع تهديدات سموتريتش، المسؤول عن الضفة الغربية بوزارة المالية الإسرائيلية، بإبادة الشعب الفلسطيني في الضفة كما في غزة إذا ما تحرك للاحتجاج على خطط الضم، في وقت يجري فيه تسليح المستوطنين بحوالي 170 ألف بندقية وسلاح خفيف.

قرارات الجمعية العامة غير ملزمة، وكذلك قرارات مجلس الأمن التي لم تُطبق على إسرائيل. هناك عشرات القرارات لصالح الشعب الفلسطيني تعاملت معها القيادة الفلسطينية ببراجماتية ولم يحصلوا على شيء، بدءًا من قرار التقسيم إلى القرار 194، مرورًا بمواقف دولية وعروض عربية للتطبيع الكامل مع إسرائيل إذا ما انسحبت من غزة والضفة واعترفت بدولة فلسطينية. لكن المشروع الصهيوني لم يتوقف. فإسرائيل لم ولن تحدد حدودًا لدولتها، لأنها مشروع دولي تقوده الإمبريالية والرأسمالية العالمية، وهو دورها الوظيفي الذي لم تتخل عنه، كما برز بوضوح في سياسات إدارة ترامب.

لقد أعطت السلطة الفلسطينية لإسرائيل كل ما تريده من ضمانات أمنية، وتنازلت عن أراضٍ في الضفة، كما قدم العرب كل ما لديهم من عروض وضمانات وتطبيع كامل إذا ما تبلور كيان فلسطيني أو دولة فلسطينية. ومع ذلك، ظل المشروع الصهيوني في تمدد، وظل هدفه أبعد من أي تسوية مرحلية.

إن حركة فتح، بأدبياتها وليس بمنحرفيها البراجماتيين، أدركت منذ عقود طويلة طبيعة الصراع. فقد كان من أهم أدبياتها النضالية تصفية الكيان الصهيوني مؤسساتيًا وعسكريًا، وإفراغ النظرية الصهيونية من محتواها. ولم يكن الخلاف مع اليهود كديانة، بل مع المشروع الصهيوني الإمبريالي الرأسمالي في المنطقة، مع السعي إلى إقامة دولة ديمقراطية على أرض فلسطين.

وللتنويه، هناك شعوب كثيرة لم تحصل على دولة أو حق تقرير المصير، مثل الأكراد البالغ عددهم 80 مليونًا الذين حاولوا مع إيران وتركيا والعراق وسوريا وفشلوا، واندمجوا في حلول ضمن نطاق سايكس-بيكو. كذلك الإيرلنديون لم يحصلوا على دولة واندمجوا مع بريطانيا، وأيضًا إقليم الباسك وكتالونيا.

لكن المشكلة لدينا أن المشروع الصهيوني لم ولن يقف، حتى لو قدّم الشعب الفلسطيني كل ما لديه من تنازلات، وحتى لو أعطى العرب كل ما لديهم من استثمارات وضمانات أمنية واقتصادية. فالمشروع الصهيوني قائم على إثارة القلاقل والبلابل واللعب على المذاهب والأقليات ليبقي الشرق الأوسط بلا خرائط ثابتة، كما قال أوباما عام 2011. ويتجلى ذلك في تمدد المشروع الصهيوني في سوريا رغم كل الضمانات، وفي لبنان أيضًا، مع حلم نتنياهو المعلن بإسرائيل الكبرى التي شاهد خريطتها جميع زعماء العرب والعالم بلا استثناء.

إذن، تنازلت قيادة منظمة التحرير وقيادة فتح عن مشروع التحرير لصالح مشروع تجسيد الهوية وحق تقرير المصير. لكن يبقى السؤال: هل تحقق ما نريد، أم أن الحل يكمن في العودة إلى أصل الصراع وأدبيات حركة فتح الأولى، بتفريغ دولة الكيان من هويتها العنصرية الصهيونية، ليصبح مجتمعًا مدنيًا خاليًا من الأيديولوجيا الصهيونية، في منطقة هادئة يعيش فيها كل سكان الشرق الأوسط في سلام؟

التعليقات (0)