-
℃ 11 تركيا
-
13 يونيو 2025
اسماعيل جمعه الريماوي يكتب: حرب بلا أفق: كيف يحوّل نتنياهو غزة إلى منصة هروب من السقوط
اسماعيل جمعه الريماوي يكتب: حرب بلا أفق: كيف يحوّل نتنياهو غزة إلى منصة هروب من السقوط
-
20 مايو 2025, 10:12:08 ص
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
كيف يحوّل نتنياهو غزة إلى منصة هروب من السقوط
منذ السابع من أكتوبر، لم يتوقف بنيامين نتنياهو عن الترويج لمعادلة صفرية لا مكان فيها لحلول وسط، إذ صاغ خطابه السياسي والعسكري حول فكرة "النصر المطلق" على حماس، لكنه في العمق لم يكن يطمح لتحقيق نصر حقيقي بقدر ما كان يبحث عن وسيلة لتأجيل الانهيار السياسي الذي يتهدده من الداخل ، فالطبقة السياسية الإسرائيلية، بشقيها الحاكم والمعارض، تعرف أن الحرب على غزة تحوّلت إلى عبء استراتيجي ثقيل، وأن أهدافها المتغيرة باستمرار تعكس التخبط لا التصميم، لكن نتنياهو يدرك أن وقف الحرب يعني بداية محاسبته على كل ما حدث، وهو ما لا يحتمله في هذه المرحلة ، لذا أصبح استمرار الحرب هدفاً في حد ذاته، وليس وسيلة لتحقيق أهداف محددة .
من هذه الزاوية يمكن فهم تعنّت نتنياهو في ملف تبادل الأسرى، فرغم إدراكه العميق أن المقاومة في غزة قادرة على الصمود وأن الحسم العسكري الكامل شبه مستحيل، إلا أنه يرفض العروض المتكررة للتهدئة ويضع شروطاً تعجيزية، لأنه لا يريد عودة الأسرى إذا كان الثمن هو منح حماس أي اعتراف سياسي أو ميداني، وهو بذلك يُقدّم بقية الجنود الأسرى قرباناً لاستمرار بقائه السياسي ، فنتنياهو اليوم لم يعد رئيس حكومة بقدر ما أصبح رهينة لتحالفاته اليمينية المتطرفة، تلك التي تعتبر أن "تصفية غزة" أولى من استعادة الجنود، وأن "إبقاء اليد على الزناد" أهم من إعادة الجثامين أو المفقودين .
هذا التصعيد المفتوح ينسجم تماماً مع عقيدة نتنياهو الأمنية التي صاغها على مدى سنوات طويلة: إدارة الصراع لا حلّه ، فالرجل الذي أمضى عقوداً في شيطنة كل مسار تفاوضي، وبناء جدار العزلة بين إسرائيل والمنطقة، لا يستطيع أن يعيش في لحظة ما بعد الحرب، لأنه لم يخطط لها أصلاً ، هو يحتاج لحرب مستمرة تُشغل الداخل وتُرضي اليمين وتُبعد عنه المحاكم، حتى لو تآكل المجتمع الإسرائيلي نفسه تحت ضغط الخسائر النفسية والميدانية .
وفي هذا السياق، يصبح مصير الجنود الأسرى تفصيلاً غير ذي قيمة في ميزان أهدافه السياسية. فالرأي العام الإسرائيلي الذي كان يقيم الدنيا ولا يقعدها في كل ملف أسير إسرائيلي سابقاً، أصبح اليوم محكوماً بمستوى هائل من التضليل والخوف، لدرجة أن الحكومة تستطيع التلاعب بوعي الناس وتسويق الحرب بوصفها قدراً لا مفر منه ، وقد نجح نتنياهو حتى الآن في قلب الأولويات، فلم يعد السؤال المركزي: "متى يعود الجنود الأسرى؟"، بل أصبح: "هل حققنا الردع؟"، وهو سؤال لا إجابة له، لأنه وُضع ليُبقي الحرب مستمرة لا ليُنهيها .
لكن هذه الحرب التي لا يريد لها نتنياهو أن تنتهي، هي حرب خاسرة بالمعايير الإستراتيجية، لأنها تعجز عن القضاء على المقاومة، وتعجز عن فرض نموذج سياسي بديل في غزة، وتعجز حتى عن منع العمليات المسلحة في الضفة والداخل ، هي حرب تستنزف إسرائيل اقتصادياً وتفكك نسيجها الداخلي وتُدخلها في صراع طويل مع الرأي العام العالمي المتغير، ومع الزمن نفسه.
وإذا كانت المقاومة و الشعب الفلسطيني يدفع ثمناً دموياً بالغاً، فإنهه في المقابل يعيد رسم معادلة الردع، وتُحبط مشروع الحسم الإسرائيلي، وتُبقي على جوهر الصراع حيّاً، وتُفشل كل محاولة لتحويل القضية إلى ملف إنساني بحت أو إلى معركة ضد "الإرهاب"، وهو ما يُبقي إسرائيل غارقة في دوامة أمنية بلا نهاية، ويجعل من فكرة النصر التي يروّج لها نتنياهو مجرد وهم سياسي لا سند له.
ولا يمكن فصل إصرار نتنياهو على استمرار الحرب عن السياق الإقليمي الأوسع، فإسرائيل لا تخوض حرباً فقط ضد غزة، بل تمارس ضغطاً متعدد الاتجاهات على أطراف إقليمية عدة لإعادة تشكيل ميزان القوى في المنطقة، فالمشروع الإسرائيلي لا يقتصر على إنهاء وجود حماس عسكرياً، بل يمتد إلى محاولة إغلاق ملف القضية الفلسطينية نهائياً، من خلال فرض حل ميداني بالقوة، وإحراج حلفاء المقاومة، وتصفية كل ما تبقّى من رمزية سياسية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي ، وقد بدت هذه الأهداف بوضوح في محاولات جرّ المنطقة إلى حروب متزامنة، عبر الضربات الإسرائيلية المتكررة في سوريا، والهجمات على لبنان، واستهداف قوى المقاومة في العراق واليمن، فنتنياهو لا يريد فقط تدمير غزة، بل يسعى إلى تفكيك "محور المقاومة" برمّته، عبر تكتيك الاستنزاف الميداني وتوسيع ساحة المعركة أفقياً لخلق حالة من الانهيار التدريجي في الجبهة المقابلة .
في هذا السياق، يصبح استمرار الحرب أداة من أدوات فرض الواقع الجديد الذي تطمح له إسرائيل: شرق أوسط بلا مقاومة، وبلا عمق استراتيجي للفلسطينيين، وبلا مشروع سياسي عربي جامع، وهو ما يخدم رؤية نتنياهو لتحالف إقليمي تقوده تل أبيب وتندمج فيه بعض العواصم العربية تحت شعار "مواجهة إيران"، بينما يُدفن جوهر القضية الفلسطينية تحت ركام غزة وصمت العواصم العربية .
أما الولايات المتحدة، فرغم خطابها المعلن الداعي إلى "وقف إنساني لإطلاق النار" فإنها في الجوهر تساند نتنياهو وتُغطي استراتيجيته الحربية، وتوفّر له مظلة سياسية وعسكرية لاستمرار القتال، فالإدارات الأمريكية، سواء كانت ديمقراطية أو جمهورية، لم تكن يوماً منحازة للعدالة في فلسطين، لكنها اليوم تُثبت أنها شريكة فعلياً في العدوان، لا مجرد حليف. واشنطن تدرك تماماً أن نتنياهو يقود إسرائيل نحو كارثة استراتيجية، لكنها لا تريد كسر الرجل قبل إنجاز ما تسميه "تأديب غزة" و"تغيير الواقع السياسي فيها"، ولذلك فهي تُفضّل إدارة الأزمة لا إنهاءها، وتؤجل الضغط الحقيقي على إسرائيل بانتظار اتضاح نتائج الحرب .
وهذا التواطؤ الأمريكي لا يقتصر على الدعم العسكري، بل يشمل تغطية إعلامية وسياسية واسعة، وضغوطاً على الأطراف العربية لمنع أي تصعيد يُربك الحسابات الأمريكية في المنطقة. والأخطر من ذلك أن واشنطن تحاول فرض سيناريو ما بعد الحرب في غزة من خلال "صفقة إعادة الإعمار" المشروطة بوجود سلطة فلسطينية مُعدّلة، منزوعة الإرادة، لا مكان فيها للمقاومة ولا لأي تمثيل مقاوم ، أي أن واشنطن تريد تحويل الكارثة إلى فرصة لإعادة هندسة النظام الفلسطيني بما يخدم مصالح إسرائيل ويُطوّع الشعب الفلسطيني سياسياً واقتصادياً .
هكذا يتضح أن نتنياهو لا يقود حرباً دفاعية، بل مشروعاً تفكيكياً على المستويين الفلسطيني والإقليمي، مستنداً إلى دعم أمريكي غير مشروط، وصمت دولي مريب، وتواطؤ إقليمي خفي، هو لا يبحث عن نصر عسكري بقدر ما يسعى إلى هندسة شرق أوسط جديد بالقوة، لكن ما يتجاهله هو أن الشعوب لا تُهزَم بالصدمة، ولا تُفرَض عليها المشاريع بالغارات الجوية، وأن المقاومة التي تصمد تحت هذا الكم الهائل من الدمار، لا تندثر بل تتجذر ، وأن الحرب التي لا نهاية لها، لا تحسم الصراع بل تفتح أبواباً جديدة للمواجهة، وتُسرّع من انهيار كل الكيانات الهشة القائمة على الاستعلاء والتفوق الوهمي .
.jpeg)







