إسماعيل جمعه الريماوي يكتب: ترامب بين العواصم العربية وغزة: وساطة أمريكية أم هندسة إقليمية؟

profile
  • clock 12 مايو 2025, 10:53:44 ص
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

زيارة ترامب للمنطقة في هذا التوقيت الحرج من الحرب على غزة تثير تساؤلات كبرى حول أهدافها الحقيقية، خاصة مع تجاهله زيارة إسرائيل وحرصه على عقد قمة مع قادة الخليج في الرياض، وفتح قنوات تفاوضية بشأن غزة من بوابة مصر وقطر.


ورغم ما يُسوَّق من حديث عن خلافات بين ترامب والحكومة الإسرائيلية، فإن الوقائع تكشف أن ما يجري لا يتعدى كونه تبادل أدوار مدروسًا ضمن استراتيجية مشتركة تهدف إلى إعادة ترتيب المشهد الإقليمي بما يخدم المصالح الأمريكية والإسرائيلية على حد سواء.


فترامب، الذي لم يتوقف عن دعم إسرائيل في خطابه السياسي رغم انتقاداته الشكلية لحكومة نتنياهو، يسعى اليوم إلى توظيف لحظة الانكشاف الإسرائيلي والتراجع الأخلاقي لجيش الاحتلال في غزة، ليظهر بمظهر القائد القادر على ضبط الحلفاء وفرض التهدئة.


وهو بذلك يخاطب الداخل الأمريكي الغاضب من الحرب الوحشية، ويحاول جذب أصوات الناخبين الشباب والمترددين من الجالية العربية والمسلمة، دون أن يتخلى عن التزامه العميق تجاه المشروع الصهيوني.

صفقة القرن


فالرجل الذي منح إسرائيل القدس والجولان، وأطلق "صفقة القرن"، لا يمكن اعتباره وسيطًا نزيهًا أو منحازًا للعدالة، بل هو مجرد طرف يتقن لعبة الأقنعة.
أما إسرائيل، التي توترت علاقاتها إعلاميًا مع إدارة ترامب بسبب بعض القرارات الآنية كتجميد الغارات على اليمن أو تأخير الدعم العسكري، فهي تدرك أن ترامب هو رصيدها الاستراتيجي الأهم، وتتفهم ضرورة منحه مساحة للمناورة السياسية في واشنطن والعواصم العربية.

خلاف ظاهري


ولذلك فهي لا تمانع في صناعة مشهد الخلاف الظاهري معه، طالما أن التنسيق الأمني والاستخباري مستمر، وطالما أن زيارته تصب في النهاية في خدمة هدف أكبر: تفكيك بيئة المقاومة وتطويق نتائج الفشل الإسرائيلي في غزة.
إن ما نشهده اليوم ليس تحركًا أمريكيًا مستقلًا عن إسرائيل، بل هو جزء من لعبة توزيع أدوار واضحة: إسرائيل تواصل القصف والتجويع، وترامب يفاوض من بوابة "الحلول الإنسانية"، في حين يجري في الكواليس إعداد المسرح لمرحلة ما بعد الحرب، حيث تسعى واشنطن لفرض تسوية منقوصة تحت عنوان إعادة الإعمار أو تبادل الأسرى، تكون بمثابة تصفية سياسية لما تبقى من عناصر القوة في المشهد الفلسطيني.


ومن هنا فإن تجاهل ترامب لزيارة إسرائيل لا يعكس خلافًا، بل يكرّس نمطًا جديدًا في إدارة التحالف الأمريكي-الإسرائيلي: نمط التخفي والتكتيك بدل الاصطفاف العلني، والتسلل عبر المساعدات بدل الضربات المباشرة.


وعلى الصعيد الاقتصادي، فإن الزيارة تحمل أبعادًا استراتيجية تتعلق بإعادة توظيف المال الخليجي في خدمة مشاريع التطبيع وإعادة الإعمار وفق الشروط الأمريكية.
فترامب يسعى إلى تحويل ثروات الخليج إلى أدوات ضغط سياسي ومالي تُستخدم لابتزاز الفلسطينيين من جهة، ولتمويل خارطة النفوذ الجديدة في المنطقة من جهة أخرى.
وهو بذلك يعيد طرح الصيغة القديمة-الجديدة: المال العربي لإعادة بناء ما دمره الاحتلال، مقابل صمت سياسي وتطبيع زاحف.


كما أن مشاريع الإعمار التي قد تُطرح خلال الزيارة ستكون مشروطة بتنسيق أمني وتفاهمات إقليمية تكرّس الدور الإسرائيلي كضامن للاستقرار، وتفرغ القضية الفلسطينية من مضمونها التحرري.
زيارة ترامب إذًا ليست حدثًا عابرًا، بل هي بداية مرحلة جديدة في إدارة العدوان، تقوم على تغليف المشروع الصهيوني بغطاء أمريكي مختلف، هدفه استيعاب الغضب الشعبي في المنطقة، وإعادة إنتاج الهيمنة بوسائل ناعمة، بعد أن فشلت أدوات القوة الغاشمة في حسم المعركة.
وإذا لم تتنبّه قوى المقاومة لطبيعة هذا التحول، فإنها قد تجد نفسها في مواجهة مشروع احتلال ناعم لا يقل خطرًا عن الصواريخ، بل يتسلل من بوابة التهدئة والإعمار والشرعية الدولية المزعومة.
والأخطر من ذلك أن هذه الزيارة قد تُستخدم لاحقًا كأداة لشرعنة مشاريع تقسيم النفوذ في المنطقة، عبر ربط ملف غزة بملفات أخرى كاليمن وسوريا ولبنان، وفرض معادلة "الاستقرار مقابل الصمت".


بحيث يجري تطويق محور المقاومة من الداخل، وتدجين الموقف العربي الرسمي لصالح خارطة إقليمية تكرّس إسرائيل كقطب أمني ووسيط شرعي في المنطقة.
فغياب ترامب عن إسرائيل لا يعني خروجها من المشهد، بل العكس، هو جزء من محاولة هندسة المشهد بما يجعل إسرائيل تبدو غائبة في العلن، وحاضرة في العمق، تدير خطوط اللعبة من خلف الستار، وتوظف الدور الأمريكي كأداة لتمرير سياساتها دون تكلفة مباشرة.


كما أن التركيز على الجوانب الإنسانية للزيارة – من وقف إطلاق النار إلى إيصال المساعدات – يخفي خلفه نوايا سياسية تتعلق بإعادة تشكيل السلطة الفلسطينية وفق شروط أمريكية وخليجية، وربما الدفع باتجاه قيادة بديلة تكون أكثر تبعية واستعدادًا لقبول أي تسوية تحت غطاء الإعمار.


إن استخدام الملف الإنساني كحصان طروادة سياسي هو سلاح خطير يجب فضحه، خاصة وأن معاناة غزة لا يمكن فصلها عن جذور العدوان ولا عن طبيعة الاحتلال.
ومن الخطأ التعامل مع الحرب كمجرد كارثة إنسانية قابلة للحل عبر المعونات والمؤتمرات.


في ضوء كل ذلك، فإن زيارة ترامب ليست فقط محاولة لإنقاذ إسرائيل من الورطة، بل قد تكون خطوة أولى نحو فرض مشروع جديد للمنطقة، أكثر خبثًا وأشد تعقيدًا، عنوانه المعلن "السلام والاستقرار"، وجوهره الحقيقي تطويع الشعوب واستنزاف قوى المقاومة، وفرض وقائع سياسية على الأرض من بوابة الحلول المرحلية والصفقات المؤقتة.
إن الموقف الواجب تبنيه في هذه اللحظة الدقيقة لا يقتصر على التشكيك في نوايا ترامب، بل يتطلب جهدًا جماعيًا لإعادة تعريف الصراع بوصفه صراعًا وجوديًا مع منظومة استعمارية تسعى للهيمنة بأدوات جديدة.


ومن هنا فإن الرد الحقيقي على هذه الزيارة يجب أن يكون بإعادة الاعتبار لخيار المقاومة كطريق استراتيجي، ورفض كل أشكال التسوية التي تحاول الالتفاف على إرادة الشعوب تحت غطاء الإعمار أو الاستقرار.
المطلوب هو موقف عربي شعبي ورسمي موحد، يضع حدًا لاستخدام المعاناة الإنسانية كغطاء سياسي، ويعيد تموضع القضية الفلسطينية في مركز الصراع الإقليمي والدولي، بوصفها قضية تحرير لا أزمة إنسانية عابرة فقط.


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
التعليقات (0)