إسماعيل جمعة الريماوي يكتب: في مواجهة الصهيونية والتدجين.. رجا إغبارية وحكاية الصمود القومي

profile
  • clock 23 مايو 2025, 1:01:58 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

عرفتُ الأخ رجا إغبارية وأنا خارج الوطن، في إحدى محطات الاغتراب في أوروبا، فكان اللقاء الأول ولو على شاشة الحاسوب كافيًا لأدرك أنني أمام شخصية ليست كباقي الوجوه العابرة في العمل الوطني، كان صلبًا في انتمائه، واضحًا في بوصلته، يتحدث عن فلسطين لا كقضية مؤجلة أو عنوان نضال موسمي، بل كهوية مستمرة ومعركة وجود لا تنتهي ، لم يكن مجرد رجل يدافع عن وطنه، بل حاملًا لهمّ شعب كامل، يختزل في حضوره معاني الصمود والوفاء للقضية الكبرى، دون انحناء أو مساومة، كان رجا في حديثه ومواقفه متمردًا على واقع الأسرلة، مؤمنًا بأن الداخل الفلسطيني ليس مجرد أقلية تبحث عن حقوق مدنية، بل جبهة متقدمة من جبهات الصراع مع المشروع الصهيوني، ولذلك ظل صوته نشازًا في زمن باتت فيه الأصوات القومية محاصرة، وعناوين المقاومة متهمة.

في زمن انحسر فيه وهج الصوت القومي وتراجعت فيه مساحة المواجهة المباشرة مع المشروع الصهيوني داخل أراضي 48، ظل رجا إغبارية، ابن أم الفحم وقائد حركة أبناء البلد، يمثل الاستثناء النادر الذي اختار أن لا يساير لغة الواقعية السياسية ولا أن ينخرط في لعبة التوازنات الخانعة التي فرضتها معادلة المشاركة العربية في الكنيست الإسرائيلي. وقف رجا في قلب معركة الهوية، متشبثًا بعروبة الأرض، ومؤمنًا بأن وجود الفلسطيني في وطنه ليس منّة من أحد بل حق تاريخي لا يقبل المساومة، وفي مقابل موجة التدجين التي اجتاحت الداخل المحتل، كان صوته يصدح بمقولات المقاومة، رافضًا الانخراط في المشروع الصهيوني، مستحضرًا فلسطين الكاملة كأفق للصراع، لا الجليل والمثلث والنقب فقط، لم يكن رجا معارضًا سياسيًا فحسب، بل حاملًا لمشروع نضالي يتجاوز حدود الداخل، يسعى إلى إعادة تعريف الوجود الفلسطيني كحالة تحرر لا كأقلية تبحث عن حقوق مدنية تحت سقف الدولة اليهودية، وفي ذلك تكمن خطورته في نظر المؤسسة الإسرائيلية، وفي ذلك أيضًا تكمن فرادة تجربته وعمق تأثيره .

نشأ رجا إغبارية في مدينة أم الفحم في قلب المثلث، المدينة التي أنجبت العديد من قادة العمل الوطني الفلسطيني في الداخل، وتفتحت وعيه السياسي في مرحلة كانت فيها الهوية القومية الفلسطينية تتعرض لمحاولات الطمس والتشويه من قبل المؤسسة الصهيونية التي سعت منذ النكبة إلى إعادة تشكيل وعي من تبقى من الفلسطينيين داخل أراضي 48 كجماعة اقلية منزوعة الصلة بقضيتها الكبرى، ومع بداية السبعينيات وجد نفسه منخرطًا في الحركة الطلابية داخل الجامعات الإسرائيلية، وهناك تشكلت نواة وعيه الوطني على أسس تتجاوز السقف الإسرائيلي وتعيد الاعتبار لفلسطين التاريخية كأرض مغتصبة لا كدولة جارة ولا كأمر واقع يجب التكيف معه، لم يتردد في رفع راية الصراع، فانضم إلى حركة أبناء البلد، تلك الحركة التي رفضت منذ تأسيسها المشاركة في الكنيست واعتبرت أن النضال في الداخل لا ينفصل عن النضال العام من أجل تحرير فلسطين من النهر إلى البحر، وكان رجا من بين الذين أسسوا لهذا الخط الفكري في الداخل، حيث لعب دورًا مركزيًا في بلورة خطاب الحركة وتوسيع قاعدتها في صفوف الشباب الجامعي والمجتمع المحلي، وتميز بقدرته على الربط بين العمق الأيديولوجي والممارسة الميدانية، فكان حاضرًا في المسيرات والمواجهات، ومشتبكًا مع مختلف أدوات السيطرة الصهيونية، وملاحقًا دائمًا من الأجهزة الأمنية التي رأت فيه خطرًا على السردية الرسمية ومشروع الأسرلة الذي يُراد فرضه على فلسطينيي الداخل .

لم يكن رجا إغبارية أسيرًا لخطاب إنشائي أو حالم، بل كان واقعيًا بمعنى الصدق مع الذات لا بمعنى التكيف مع الواقع القائم، ولذلك كان رفضه لاتفاق أوسلو ومنظومة الحكم الذاتي الناشئة عنه امتدادًا طبيعيًا لموقفه من المشروع الصهيوني، إذ رأى في هذا الاتفاق أخطر أشكال التصفية للقضية الفلسطينية، لأنه أخرج فلسطينيي الداخل من المعادلة الوطنية، وجعلهم مجرد متفرجين على مشهد تفاوضي يعيد تعريف القضية وفق منطق الدولة المقطعة والحقوق المجتزأة، ولأن رجا كان يرى أن معركة الهوية هي المعركة المركزية، فقد خاض مواجهته ضد مشروع الأسرلة داخل المجتمع العربي في الداخل، منتقدًا الأحزاب التي اختارت طريق المشاركة في الكنيست، واصفًا إياها بأنها أدوات شرعنة للواقع الصهيوني لا أدوات تغيير حقيقي، وفي هذا السياق شن هجومًا متكررًا على ما أسماه سياسات التذويب القومي التي تمارسها الدولة من خلال أدوات ناعمة أحيانًا وخشنة أحيانًا أخرى، وكان يكرر دائمًا أن الصراع مع الصهيونية لا يحسم في صناديق الاقتراع بل في وعي الناس وفي استعدادهم للتمرد على منظومة الهيمنة القائمة .

لم يكن حضور رجا إغبارية الميداني والسياسي أمرًا سهل الهضم بالنسبة للمؤسسة الإسرائيلية، فالرجل الذي تجاوز الخطوط المرسومة لفلسطينيي الداخل لم يكن يكتفي برفض المشاركة في أدوات النظام الصهيوني، بل كان يفضح مشروعه علنًا، ويدعو إلى مقاومته فكريًا وشعبيًا، وكان حضوره الكاريزمي وخطابه القومي الواضح يمثل تهديدًا دائمًا لمنظومة الأسرلة، ولهذا لم تتوقف ملاحقته الأمنية على امتداد العقود الماضية، حيث تعرض لسلسلة من الاعتقالات والاستدعاءات والحظر والمراقبة، وكان يُتهم بشكل متكرر بالتحريض على الدولة ودعم قوى معادية، وكل ذلك دون أن تملك المؤسسة دليلًا قاطعًا إلا خطابه الذي يصر على تعريف إسرائيل ككيان استعماري استيطاني لا كدولة ديمقراطية يسعى المواطن العربي للاندماج فيها .

وفي السنوات الأخيرة، ومع صعود اليمين الصهيوني المتطرف وتوحش الخطاب العنصري في دولة الاحتلال، تصاعدت حملة القمع ضد الأصوات التي تخرج عن السياق، وكانت حصة رجا إغبارية من هذا القمع ثقيلة، إذ اعتُقل في مرات متعددة، لكن اعتقاله الأخير جاء في سياق سياسي بالغ الدلالة، حيث جرى توقيفه مؤخرا في ظل العدوان الإسرائيلي على غزة ، بذريعة التحريض ومواقفه العلنية التي دعا فيها إلى نصرة الشعب الفلسطيني في القطاع ومقاومة المجازر، ومنذ ذلك الحين لا يزال رجا قابعًا في سجون الاحتلال دون محاكمة عادلة، في مشهد يختزل طبيعة الديمقراطية الإسرائيلية حين تصطدم بمن يرفضها من جذورها، هذا الاعتقال لم يكن مجرد إجراء أمني كما حاولت إسرائيل أن تُصوّره، بل كان في جوهره قرارًا سياسيًا لإسكات صوت يمثل إحراجًا دائمًا للمنظومة الصهيونية، فاعتقال رجا هو اعتقال لخطاب لا يقبل بالتعايش مع الاحتلال، ولا يعترف بشرعية النظام الذي أقيم على أنقاض شعب مشرد، وهو محاولة متكررة لتجريم الوعي الوطني المقاوم داخل الداخل الفلسطيني، خاصة حين يصدر عن قيادات تحظى بثقة قطاع واسع من الشباب الفلسطيني العابر للأجيال والجغرافيات .

رجا إغبارية ليس مجرد شخص، بل يمثل حالة فكرية وشعبية تعكس إمكانات المقاومة في الداخل رغم كل محاولات التفتيت والتدجين .


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
التعليقات (0)