إسماعيل جمعة الريماوي يكتب: صحافة النفاق.. حين يصبح الكذب وطناً والمنافقون حراس بواباته

profile
  • clock 10 يونيو 2025, 8:25:21 ص
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

في زمن تتهاوى فيه المعايير وتختلط فيه الحقائق بالأكاذيب، تصعد إلى الواجهة صحافة لا تشبه الوطن إلا في ادعائها له، صحافة تتحدث عن القيم والمبادئ بينما تطعنها كل يوم في ظهرها، وتزعم الدفاع عن الحقيقة بينما تشنّ حرباً شعواء على من ينطق بها ، في مثل هذا المشهد، لم تعد الصحافة سلطة رابعة، بل صارت سكينًا في يد السلطة المتسلطة، تسنّها على أعناق الأحرار وتزينها بألوان الوطنية الزائفة.

نحن لا نتحدث هنا عن مجرد خلل مهني أو انحراف بسيط في السلوك الصحفي، بل عن منظومة نفاق متكاملة، صارت فيها "الوطنية" سلعةً رخيصة تُباع في سوق الولاء، ويُصنَّف بموجبها الصحفيون بين مُدان ومُحتفى به، لا بناءً على صدق الكلمة أو نزاهة القلم، بل على مقدار ما يقدمه صاحبه من طاعة ودهاء وتزييف ، حيث يُقصى من يصدح بالحقيقة، ويُتهم بالخيانة أو يُحال إلى الصمت القسري، بينما يُفتح الباب واسعًا للمنافقين وأبواق السلطة، أولئك الذين يحولون الدم إلى أخبار باهتة، والقمع إلى إنجاز، والتطبيع إلى ضرورة تاريخية.

هذه الصحافة لم تعد وسيلة لرقابة السلطة، بل صارت ذراعًا من أذرعها، تنشر ما يُطلب منها، وتُسكت ما يجب ألا يُقال، تكتب ما يُملى عليها، وتمحو ما يُهدد مصالح مموليها وأسيادها، تحول الصحفي فيها من شاهد على الأحداث إلى شريك في التزوير، ومن ناقل للحقيقة إلى صانع للوهم ، لم يعد القارئ يبحث في مقالاتها عن وعي أو فهم، بل عن كمية جديدة من التنويم الإعلامي أو التبرير السياسي.

وليس الأمر عشوائيًا، بل هو جزء من بنية أشمل، تسعى إلى إفراغ المجتمعات من أي قدرة على التمييز بين الصدق والكذب، بين المصلحة العامة ومصالح الطغاة ، فحين تُقتل الكلمة الصادقة وتُدفن في صمت المقص الرقابي، ويُمحى الصحفي الحر من المشهد أو يُسجن أو يُشيطن، تصبح الساحة مهيأة لبروز جوقة من الكتبة الذين لا يعرفون من المهنة سوى خداع الناس وتلميع الطغاة.

في مثل هذا الواقع، لا يُصبح الصراع على الحقيقة صراعاً مهنياً فقط، بل هو معركة وجودية ، معركة بين من يريدون الحفاظ على ما تبقى من كرامة الإنسان، وبين من باعوا شرف الكلمة في مزاد السلطة ، وبينما تتكاثر المؤسسات الإعلامية على السطح، تتقلص الحقيقة وتضيق المساحة المتاحة للنقاش والاختلاف، وتتحول المهنة إلى واجهة زائفة تبرر قمع الداخل وتُطبع مع الخارج.

التعليقات (0)