إسلام الغمري يكتب: معجزة غزة… بين الحقائق العسكرية الإيمانيّة والمبالغات الدعائية؟

profile
د إسلام الغمري سياسي مصري
  • clock 21 أغسطس 2025, 1:41:55 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

أولاً: الحقائق العسكرية الصلبة

منذ اللحظة الأولى للعدوان، ألقت إسرائيل على غزة كل ما تملك من أنواع الأسلحة: طائرات F-15 وF-35 الشبحية، الأباتشي، المسيّرات، المدفعية الثقيلة، قنابل ذكية وارتجاجية، وصواريخ من البر والبحر. كما تدفقت الأسلحة الأمريكية والأوروبية بكثافة، في صورة دعم مباشر عسكري ولوجستي لم يسبق له مثيل.
ورغم هذه الترسانة التي تكفي لشن حرب كبرى على دولة متوسطة الحجم، بقيت غزة – بمساحتها الضيقة التي لا تتجاوز 365 كم مربع – صامدة عصيّة على الانكسار.

لم يكن المشهد مجرد معركة بين جيش نظامي مدجج ومقاومة محاصَرة، بل كان مواجهة بين قوة هائلة مُدعّمة استخباريًا وتكنولوجيًا، وبين مقاتلين يتنقلون تحت الأرض وفوقها، بمهارات غير متوقعة. التقارير الإسرائيلية نفسها اعترفت بخسائر بشرية ومادية غير مسبوقة، وبعجزٍ عن القضاء على المجموعات القتالية، رغم أن سماء غزة مكتظة بالطائرات وأجهزة الرصد.

ثانيًا: لغة الأرقام بين الحرب النفسية وحقيقة الصمود

في أجواء الحروب الكبرى، تصبح الأرقام جزءًا من المعركة لا تقل خطورة عن الرصاص. الاحتلال الصهيوني يحرص دائمًا على التهوين من خسائره وإخفاء حجم قتلاه ومعداته المدمَّرة، بينما يلجأ الإعلام المقاوم أحيانًا إلى تصوير النجاحات بلغة مضاعفة ترفع المعنويات وتُعزز الثقة في إمكانية النصر.

لكن بعيدًا عن دقة الأرقام أو مبالغتها، تبقى الحقيقة الساطعة أن غزة – بما لا يتجاوز شريطًا صغيرًا من الأرض – صمدت في وجه آلة عسكرية وُصفت بأنها من بين الأشد فتكًا في العالم، مدعومة بالأمريكيين والأوروبيين، وبغطاء جوي وبحري وبري غير مسبوق. ومع ذلك، رأى العالم مشاهد لآليات محترقة، وجنود يفرون مذعورين، ومقاومين يزرعون العبوات تحت أنوف الطائرات المُسيّرة وأعين الأقمار الصناعية.

إن القول إن “ثلث الآليات الإسرائيلية دُمِّر” أو أن “الخسائر تعادل آلاف الجنود” قد يحمل شيئًا من التقدير المعنوي أكثر من الحساب الدقيق، لكنه لا يلغي الحقيقة العميقة: جيش الاحتلال انكسر نفسيًا، وتعرض لهزيمة في صورته وهيبته، فيما قدّم الفلسطينيون ملحمة من التضحيات الأسطورية التي هزّت ضمير العالم.

ثالثًا: البُعد الإيماني والمعنوي

وسط هذا كله، يبقى البُعد الإيماني حاضرًا بقوة. كثير من المراقبين، حتى من خارج العالم الإسلامي، وصفوا صمود غزة بأنه “غير مفهوم عسكريًا”. كيف لمقاتلين محاصَرين أن يستمروا في تنفيذ كمائن وزرع متفجرات وتفجير آليات، تحت عيون أقمار صناعية وطائرات تجسس غربية وإسرائيلية؟

المؤمنون يفسرون ذلك بالعناية الإلهية، وبصدق وعد الله بنصر المرابطين على الثغور. حديث النبي ﷺ: «أفضل رباطكم عسقلان» يضيء هذا المعنى، حيث يُذكّر بفضل الرباط على ساحل فلسطين، وبأن الجهاد ليس مجرد فعل عسكري بل روح تزرع الثبات في القلوب.

المعجزة الحقيقية هنا ليست في تعطيل آلة عسكرية فقط، بل في قدرة شعب أعزل – نساءً وأطفالًا ورجالًا – على الاستمرار في الحياة والمقاومة، وكأنهم يعلنون أن الإيمان أقوى من الطائرات.

رابعًا: اليوم الأول لطوفان الأقصى… لحظة الانكسار الكبرى

لا يمكن الحديث عن “معجزة غزة” من دون التوقف عند اليوم الأول لانطلاقة طوفان الأقصى، ذلك اليوم الذي مرغت فيه المقاومة أنف أعتى جيش في المنطقة بالتراب. لقد فوجئ الاحتلال بضربة نوعية أربكت حساباته، وكسرت هيبته التي طالما روّج لها، حتى بدا قادته كمن فقدوا عقولهم، يتخبطون كالمجنون الذي يحفر قبره بيديه.

لقد كان مشهد اختراق التحصينات الإسرائيلية وتجاوز خطوطها الدفاعية مثالًا ساطعًا على عبقرية التخطيط ودقة التنفيذ، لكن الأعظم من ذلك كان الثبات الانفعالي الذي أبداه المقاتل الفلسطيني. في وقتٍ سقطت فيه صورة الجيش الذي لا يُقهر، ظهر الفلسطيني رابط الجأش، يزرع ابتسامته وسط لهيب المعركة، ويُعامل أسرى العدو برقيّ وإنسانية وروح إيمانية تُدهش حتى الخصوم قبل الأصدقاء.

إنها لحظة مفصلية لم تغيّر فقط في الوعي الفلسطيني، بل في وعي المنطقة بأسرها: أن الاحتلال ليس قدرًا أبديًا، وأن القوة المتغطرسة يمكن أن تنهار في ساعات أمام إرادة صلبة وعزيمة مؤمنة.

 

خامسًا: الشعب البطل وصمود الأسطورة

لم تكن المقاومة في غزة حكاية بندقية فقط، بل كانت حكاية شعب بأكمله. شعبٌ محاصر منذ سنوات، تُغلق في وجهه المعابر، وتُقطع عنه الكهرباء والدواء، ويُقتل أطفاله جوعًا وقصفًا، وتُرتكب بحقه أبشع المجازر في وضح النهار أمام صمت العالم. ومع ذلك، لم ينكسر ولم يرفع راية الاستسلام، بل وقف بكافة أطيافه – رجالًا ونساءً، شيوخًا وأطفالًا – ليكتب ملاحم أسطورية في وجه أعتى قوة احتلال عرفها العصر الحديث.

إنها ملحمة تُظهر كيف يمكن لشعب أعزل أن يحوّل الحصار إلى فرصة للصمود، والإبادة إلى دافع للمقاومة، والدماء إلى مداد يكتب به صفحات جديدة من الكرامة. كل بيت في غزة صار خندقًا، وكل شارع صار ساحة رباط، وكل أمّ قدّمت ابنها شهيدًا غدت مدرسة في الصبر والثبات. وهكذا ارتقى الشعب الفلسطيني – لا ببطولاته العسكرية فحسب – بل بصلابة إرادته التي لم تنكسر، وبعزيمته التي لم تُهزم، ليكون هو المعجزة الكبرى التي حيّرت العدو وألهمت الأحرار في كل مكان.

سادسًا: ما بين الحقيقة والمبالغة

عند التدقيق، نكتشف أن “معجزة غزة” لها ثلاثة وجوه متداخلة:
1. وجه واقعي عسكري: استخدام غير مسبوق للسلاح وفشل في تحقيق الحسم.
2. وجه دعائي: أرقام ومقارنات قد تحمل شيئًا من التضخيم، لكنها في جوهرها تعكس حربًا نفسية مشروعة في ظل اختلال موازين القوى.
3. وجه إيماني: عناية الله التي تحف بالمجاهدين والمرابطين، وتمنحهم قدرة تفوق الحسابات المادية.

إن إدراك هذه الأبعاد الثلاثة هو ما يمنح الرواية توازنها. فالمعجزة الحقيقية ليست في الأرقام الجامدة، بل في بقاء غزة حيّة مقاتلة رغم حصار دام سنوات، وعدوان متكرر، وتواطؤ دولي.

الخاتمة

غزة ليست مجرد جغرافيا محاصَرة؛ إنها مختبر للحقائق والمعاني. هناك حقائق عسكرية لا يمكن إنكارها: فشل آلة الحرب الإسرائيلية، وتكتيكات المقاومة التي أربكت الجيش الأقوى في المنطقة. وهناك لغة أرقام ودعاية يجب أن تُقرأ بوعي. وفوق ذلك كله، هناك بُعد إيماني يزرع الثقة بأن هذه الأرض محمية بعناية الله، وأن الرباط فيها عبادة وجهاد.

وإذا كان اليوم الأول لطوفان الأقصى قد كشف هشاشة الاحتلال ومرّغ كبرياءه في التراب، فإن الأيام التالية أثبتت أن المقاومة ليست لحظة عابرة، بل هي مسيرة ممتدة يشترك فيها الشعب كله. وإذا كانت المقاومة قد أدهشت العالم بقدرتها على مقارعة آلة الحرب، فإن الشعب الفلسطيني كله – بصبره وصموده وتضحياته – هو الخاتمة الملحمية الإيمانية لهذه القصة، وهو الشاهد الحي على أن الإيمان أقوى من السلاح، وأن الأمة التي تقدّم الشهداء لا تُهزم مهما طال الزمن.


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
التعليقات (0)