مصطفى خضري يكتب: هندسة المواجهة: كيف أشعلت خطة طوفان الأقصى الحرب بين إيران والكيان الصهيوني

profile
مصطفى خضري باحث مصري
  • clock 22 يونيو 2025, 5:29:52 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01
طوفان الأقصى

عندما اندلعت الحرب المفتوحة بين الكيان الصهيوني وإيران في 13 يونيو 2025، نظر العالم إليها على أنها الذروة الحتمية لعقود من العداء.


لكن لفهم جذور هذه المواجهة، يجب النظر إلى ما هو أعمق من مجرد ردود الأفعال؛ يجب تحليل السبب الرئيسي الذي أوصل الطرفين إلى المواجهة الحتمية.

فبرغم حالة العداء الطبيعية بين المشروعين، إلا أنه طوال السنوات السابقة كان الطرفان يتحاشيان الصدام المباشر؛ إذ يعلمان أن الحرب المباشرة بينهما غير مضمونة النتيجة.
 

ولذلك، فضَّلا مباراة شبه تعاونية يلعبان فيها لعبة مستقرة، تحافظ على التموضع الاستراتيجي لكليهما دون مخاطر غير محسوبة.

لكن يحيى السنوار ورفاقه كان لهم رأي آخر؛ فالقضية الفلسطينية تحتاج إلى رافعة حربية لا يستطيعون توفيرها باستخدام القوة التقليدية المحدودة للمقاومة الفلسطينية، خاصة بعد حالة الموت السريري للدول العربية في ظل الأنظمة الحالية المُطبِّعة مع الكيان الصهيوني جهراً أو سراً.

ووجدوا ضالتهم في حرب إقليمية مفتوحة بين إيران والكيان الصهيوني. حرب تُجبر المعسكرين الشرقي (الصين وروسيا وإيران وباكستان) والغربي (أمريكا والاتحاد الأوروبي والكيان الصهيوني والهند) على البحث عن نقطة التوازن (نقطة السرج) لمنع اندلاع حرب عالمية نتيجة الصدام بين الكيان الصهيوني وإيران.

وقد صمم السنوار وأصحابه خطة "طوفان الأقصى" ليكون حل القضية الفلسطينية هو نقطة السرج في تلك الحرب الإقليمية المخطط لها.


ولم تكن خطة السنوار لإشعال حرب إقليمية فحسب، بل لإجبار حلفائهم على تحمل نصيبهم من تكلفة القضية الفلسطينية مقابل ما حصلوا عليه من استغلال لها.


لقد كان السنوار ورفاقه يعلمون جيدًا أن إيران وأذرعها، كنظام الأسد في سوريا وحزب الله في لبنان، طالما استغلوا القضية الفلسطينية لبناء مشروعية إقليمية تحت شعار "محور المقاومة".


وقد كانت المقاومة الفلسطينية متماهية مع هذا الاستغلال، وتحملت الكثير من الهجوم الشعبي نظير التماهي مع ما يُسمَّى محور المقاومة الإيراني؛ لحاجتها إلى الفتات الذي تحصل عليه من هذا المحور المزعوم، حتى تكمل استعدادها في ظل حصار عربي صهيوني يمنعها من التقاط الأنفاس.


لكنها عندما وصلت إلى نقطة اللاعودة؛ ألقت بجميع أوراقها في "الطوفان" لتقول للجميع: "انتهى زمن الشعارات، حان وقت دفع كلفة هذا الاستغلال بالدم والنار".

الأساس الفكري: تشريح تناقضات المحور المزعوم

كان يحيى السنوار ورفاقه - رحمهم الله - يعرفون يقينًا أن ما يُسمَّى "محور المقاومة" يعاني تناقضًا جوهريًا من ناحيتين:

الأولى: استغلال القضية الفلسطينية كوقود لمشاريع التوسع الإقليمي، بينما ظلت التضحيات فلسطينية خالصة.

الثانية: أن خطاب إيران وأذرعها يغلب عليه الشعارات، مقابل واقع يتجنب المواجهة المباشرة مع الكيان الصهيوني.

كما أن السنوار ورفاقه كانوا يعرفون جيدًا أن الدعم الذي تقدمه إيران وحزب الله كان في جوهره أدوات لتعزيز النفوذ وليس للتحرير الكامل للقضية.

طوفان الأقصى: هندسة الأزمة التي لا تُحتوى

صُمِّمت عملية "طوفان الأقصى" لتكون ضربة استراتيجية متعددة الأبعاد عملت على:

- إجبار الكيان الصهيوني على الانزلاق في وحل غزة سياسيًا وعسكريًا، وكسر أسطورة الوطن الصهيوني الآمن، التي كانت دائمًا الشعار الذي يرفعه الصهاينة لاستقطاب يهود العالم إلى الأرض المحتلة، بما يستدعي تدخلًا إقليميًا وعالميًا واسع النطاق.

- كشف تناقض المحور، ووضع الحلفاء أمام امتحان المصداقية، حيث أصبح التجاهل يعني انهيار البناء الأيديولوجي الذي بنوه على شعارات المقاومة.

- توحيد الساحات الفلسطينية، حيث مهَّدت معركة سيف القدس في 2021 لدمج غزة والضفة والقدس والداخل المحتل في معركة واحدة، مما زاد الضغط على الحلفاء للانخراط بجدية أكبر.
لم يكن "الطوفان" مجرد عملٍ عسكري، بل خطة استراتيجية مُعَدَّة سلفًا لإجبار الجميع على دفع الثمن.

تصاعد الضغط: من التردد إلى دفع الثمن

جاء تردد إيران وحزب الله في الانخراط بشكل كامل بعد أكتوبر 2023 ليؤكد صحة شكوك السنوار ورفاقه. لقد حاولوا إدارة الأزمة من بعيد، عبر مناوشات محسوبة على الحدود اللبنانية وهجمات محدودة من وكلاء آخرين. لكن السنوار ورفاقه كانوا يراهنون على أن الضغط سيستمر في التصاعد حتى يصل إلى نقطة الانفجار.

حزب الله: الضريبة الدموية

بدأ حزب الله بمناوشات حدودية محسوبة (أكتوبر 2023)، لكن استمرار الأزمة دفع الكيان الصهيوني إلى تصعيد استهدافاته. ففي 28 سبتمبر 2024، اغتال الكيان الصهيوني الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، في عملية استخباراتية كبيرة، تبعتها عمليات استهداف مكثفة لقيادات وكوادر الحزب. كما تم استهداف مقر قيادته وتفجيره. وقد ساهمت عملية "البيجر" التي وقعت في سبتمبر 2024 باستهداف أعداد كبيرة من الكوادر الوسيطة في الحزب، مما أرهق قدراته البشرية. تحوَّل الحزب من "مقاومة بالوكالة" إلى طرف منهك في حرب وجود مباشرة ومكلفة.

سوريا: سقوط نظام الأسد

ولم يختلف مصير بشار في دمشق عما حدث لحزب الله في لبنان، فقد دفع الثمن ولكن بشكل أكبر على يد تحالف سني بقيادة أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني)، الذي استغل حالة الفراغ البيني أثناء الصراع الذي ولَّده طوفان الأقصى بالمنطقة، وأسقط نظام الأسد ليصبح رئيسًا لسوريا، بعد عمليات عسكرية واسعة. تردد النظام السوري في الانخراط المباشر في الصراع الفلسطيني الصهيوني أفقدَه الغطاء الشعبي والشرعية، مما عجَّل بنهايته.

إيران: القرار الذي تأخر كثيرًا

حافظت طهران على حرب "بالوكالة" لمدة 18 شهرًا بعد "طوفان الأقصى"، لكن الضغط المتصاعد الذي يتعرض له الكيان الصهيوني على يد القسام دفع نتنياهو إلى خطوة غير مسبوقة: فقد شن هجومًا استباقيًا واسع النطاق على إيران في 13 يونيو 2025، في محاولة لـ"الهروب من وحل غزة" وتحويل الأنظار عن الأزمة الداخلية. هذا الهجوم لم يكن من فراغ، بل جاء نتيجة لإدراك صهيوني بأن الوضع الذي خلقه السنوار ورفاقه لا يمكن حله بالوسائل القديمة. وهكذا، أجبر طوفان الأقصى الكيان الصهيوني على توجيه ضربة البداية ضد إيران، التي أصبحت مضطرة في النهاية إلى اتخاذ قرار الرد الشامل والدخول في حرب مفتوحة كما كانت خطة طوفان الأقصى. حتى وإن تأخروا كثيرًا عن الوقت الذي قدَّره السنوار ورفاقه؛ لكنهم استُدرجوا في النهاية لما خططت له المقاومة.

الحصاد الجيوسياسي: قلب معادلات المنطقة

مع دخول الحرب المفتوحة، يتضح أن السنوار ورفاقه قد حققوا هدفهم الأسمى. فإيران الآن تخوض حربًا وجودية ومكلفة، ليس وفق توقيتها وشروطها، بل وفق التوقيت والشروط التي فرضها "طوفان الأقصى". وهذه هي الرافعة العسكرية التي كان ينتظرها السنوار ورفاقه والتي تحقق رؤيتهم النهائية:

١-انهيار أسطورة المشروع الصهيوني: فقد تكسرت ركائز المشروع الصهيوني الأساسية ("الأغلبية اليهودية" و"الردع المطلق" و"الوطن الآمن") تحت ضربات المقاومة والتداعيات الإقليمية للحرب.

٢- استنزاف الجميع والمستفيد غزة: يخوض الكيان الصهيوني حربًا على جبهتين تستنزفه حتى النخاع، بينما تدفع إيران بكل قوتها وأسلحتها -التي لا تملك المقاومة مثيلاً لها- للدفاع عن نفسها هذه المرة، وغزة هي المستفيد الأول، فقد حركت المقاومة صواريخ إيران فرط الصوتية وجعلتها تدك الأرض المحتلة بالنيابة عنها.

٣- القضية الفلسطينية في المركز: أصبحت القضية الفلسطينية هي المحرك المركزي للصراع الإقليمي الأكبر، لا مجرد ملف على الهامش.

٤- الصحوة العربية: شهدت المنطقة صحوة غير عادية داخل العواصم العربية النائمة في أحضان التطبيع الصهيوني، وعكست موجة الغضب الشعبي تجاه المواقف الرسمية ما يمكن أن يؤول إليه الأمر؛ إذا تقاربت تلك الدول من الكيان الصهيوني. كما برزت مؤشرات على موجة تديُّن جديدة ذات طابع جهادي بين الشباب كرد فعل على صمود غزة، وفقًا لمراقبين وتحليلات اجتماعية.

٥- تحويل الدعم المحدود إلى تورط: فقد انتقل "محور المقاومة" من موقع الداعم الآمن إلى المتورط المباشر في قلب المعركة.

إن الحرب الإيرانية-الصهيونية المشتعلة اليوم وبغض النظر عن نتيجتها هي تتويج لاستراتيجية متعددة الطبقات:

الطبقة العسكرية: ضربات موجعة تجبر الخصم على رد غير محسوب.

الطبقة السياسية: تحويل الحلفاء من مستفيدين إلى مدفوعين.

الطبقة الحضارية: إحياء القضية الفلسطينية كرمز جامع للأمة.

لقد نجح السنوار ورفاقه في تحويل نتائج الاحتلال والاستغلال إلى عواقب، فقد كان رهانهم على النفس الطويل وإيمانهم بأن "المقاومين أبطال وهبوا حياتهم لله". وتحويلهم الضعف إلى قوة باستخدام حالة غزة المحاصَرة كبيئة حاضنة لاستراتيجية الصدمة؛ أجبر الجميع على النزول إلى ساحة الحرب.
مُذكِّرين الجميع بأن القضية الفلسطينية ليست سلعة سياسية، بل قضية مصيرية تُدفع ثمنها بالدم لا بالشعارات. استشهادُه ورفاقه البطولي يضيف بعدًا أسطوريًا لطوفان الأقصى، مؤكدًا أن التضحية بالدم هي أعلى مراتب الإخلاص للقضية.
مصطفى خضري

التعليقات (0)