التدرج الزمني: الفخ التفاوضي المحكم

مصطفى خضري يكتب: الذكاء الاستراتيجي لحماس في مفاوضات غزة: كيف فضحت وثيقة رد حماس هشاشة الألعاب الصهيونية؟

profile
مصطفى خضري باحث مصري
  • clock 4 يونيو 2025, 4:23:24 م
  • eye 460
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01
تعبيرية

في غمرة التصعيد الإقليمي المتلاحق والضغوط الدولية المتزايدة، لم يكن رد حركة حماس على مقترح المبعوث الأمريكي ستيف ويتكوف بشأن وقف إطلاق النار في غزة مجرد وثيقة دبلوماسية عابرة، بل كان أشبه بضربة معلم كشفت عن استراتيجية بالغة الدقة. 

 

جاء هذا الرد على وقع مجزرة رفح المروعة في 1 يونيو 2025، التي حصدت أرواح الكثير من أهل غزة عند نقطة توزيع المساعدات، لتصب الزيت على نار الغضب الدولي. فبينما سعت سردية الكيان الصهيوني المتهاوية للحديث عن "القضاء على حماس"، أتى الرد الفلسطيني ليعيد صياغة المشهد التفاوضي برمته، محولًا إياه من مجرد نقاش إلى "لعبة شطرنج دبلوماسية معقدة"، حيث كل حركة محسوبة بدقة.

 

لعبة الشطرنج السياسي: رد حماس الوثيقة التي كشفت المستور

 

لم يكن رد حماس مجرد ورقة تفاوضية تقليدية، بل هو وثيقة محكمة التفاصيل، أشبه بمرآة عكست بوضوح هشاشة الموقف الصهيوني، وفرضت معادلات جديدة على الأرض. لم يكن وصف ويتكوف للرد بأنه "غير مقبول" سوى محاولة لإنكار حقيقة أن تحليل بنود الرد أظهر كيف اعتمدت الحركة هندسة سياسية دقيقة أجبرت الكيان الصهيوني والولايات المتحدة على إعادة تقييم مواقفهما، بل ومراجعتها جذريًا.

 

التدرج الزمني: الفخ التفاوضي المحكم

 

أحد أبرز ملامح هذا الرد الذكي تمثل في استخدام التدرج المرحلي كسلاح تفاوضي بارع. ففي اليوم الأول، طالبت حماس بإطلاق أربعة أسرى إسرائيليين مقابل انسحاب كامل وفوري للقوات الصهيونية من غزة. ثم، في اليوم العاشر، تسليم ست جثث لإسرائيليين مع تقديم معلومات دقيقة حول الأسرى الأحياء والأموات. ليتوج الأمر في اليوم 30 أو 50 بإطلاق سراح باقي الأسرى مقابل إطلاق الأسرى الفلسطينيين. هذا التدرج، في جوهره، حوّل الانسحاب الصهيوني إلى "دفعة مقدمة" لا رجعة فيها، مما منح حماس القدرة على ممارسة ضغط متجدد في كل مرحلة، ضامنًا بذلك ألا تتحول التنازلات إلى مجرد وعود فارغة.

 

المأساة الإنسانية: تحويل الألم إلى أداة تفاوضية

 

بذكاء استثنائي، نجحت حماس في تحويل المأساة الإنسانية، التي طالما استخدمها الكيان الصهيوني للضغط عليها، إلى أداة تفاوضية شرعية. فقد اشترطت فتح معبر رفح دون قيود، وإدخال مواد البناء وتشغيل المستشفيات تحت إشراف دولي (قطر، مصر، الأمم المتحدة)، بالإضافة إلى خطة إعمار تمتد من ثلاث إلى خمس سنوات بتمويل دولي. بهذه الخطوة، لم تكتفِ الحركة بإنقاذ الأرواح، بل وظّفت المأساة كأداة سياسية لانتزاع شرعية جديدة لنفسها كسلطة حاكمة، ولتثبيت أقدامها كفاعل لا يمكن تجاهله على الساحة الإنسانية والسياسية.

 

استدراج الضامنين الدوليين: واشنطن في مأزق الضمان

 

ولم تكتفِ حماس بذلك، بل طالبت بضمانة أمريكية مباشرة (حتى من ترامب شخصيًا) تضمن التزام الكيان الصهيوني بوقف إطلاق النار، إضافة إلى دور رقابي للوسطاء (أمريكا، مصر، قطر) لمراقبة الانسحاب واستمرار الهدنة. هذه الخطوة لم تكن مجرد مطلب عابر، بل نقلت واشنطن من مجرد "وسيط" إلى "ضامن"، في تحول جيوسياسي أربك الحسابات الصهيونية وأجبر الولايات المتحدة على تحمل مسؤولية أكبر تجاه ما يحدث.

 

تقييد الذريعة الأمنية: إفراغ "أمن إسرائيل" من محتواه

 

وفي خطوة أخرى لتحجيم مناورات الكيان، تضمن رد حماس مطلب وقف طويل الأمد للعمليات العسكرية (5-7 سنوات)، مع تقييد الطيران الصهيوني فوق غزة إلى عشر ساعات يوميًا فقط. هذه البنود الاستراتيجية لم تكن تهدف فقط لتهدئة الأوضاع، بل عملت على تجريد الكيان الصهيوني من ذريعة "الأمن" التي طالما استخدمتها لتبرير عملياتها العسكرية العدوانية، وكشفت عن هشاشة هذه الذريعة التي لطالما كانت ستارًا لأهداف سياسية وعسكرية أوسع.

 

دعم الحوثيين: ورقة ضغط إقليمية تعزز موقف حماس

 

وفي خضم هذه المفاوضات المعقدة، يبرز دعم الحوثيين المستمر لحماس كبعد جيوسياسي حاسم يعزز موقف حماس التفاوضي بشكل كبير. فالهجمات المتواصلة التي يشنها الحوثيون على السفن في البحر الأحمر، والتي تستهدف المصالح الاقتصادية للكيان الصهيوني وحلفائه، تخلق ضغطًا اقتصاديًا وأمنيًا إضافيًا على تل أبيب. هذا الضغط لا يمكن تجاهله، فهو يترجم إلى عامل يقوي جبهة حماس في المفاوضات، حيث يرى الكيان الصهيوني نفسه محاصرًا على جبهات متعددة. إن استمرار عمليات الحوثيين يضيف عنصرًا من عدم اليقين والتهديد طويل الأمد، مما قد يدفع الكيان الصهيوني إلى تقديم تنازلات أكبر لإنهاء الصراع، ليس فقط في غزة ولكن أيضًا لتهدئة الوضع المتفجر في الإقليم ككل. هذا الدعم، بعمق تداعياته، يعكس تحالفًا إقليميًا غير معلن يخدم مصالح المقاومة الفلسطينية بشكل فعال.

 

انكشاف الهشاشة الصهيونية: سقوط الأقنعة

 

لم يكن رد حماس مجرد وثيقة تفاوضية، بل كان بمثابة مرآة كشفت للعالم أوجه ضعف الكيان الصهيوني بشكل غير مسبوق:

المأزق الأمني: رفض الانسحاب الفوري يناقض رواية نتنياهو الأجوفاء حول "القضاء على حماس"، حتى أن الصحف العبرية نفسها أقرت بأن الرد أظهر صمود الحركة وقدرتها على الباوة والمناورة.

الانقسام الحكومي: تصريحات وزير الأمن القومي المتطرف إيتمار بن غفير ("الحل في غزة بالقتل لا بالتفاوض") كشفت عن عجز الحكومة أمام ضغوط اليمين المتطرف، وفضحت التمزق الداخلي الذي يعصف بها.

الفشل الاستخباري: اعتماد الجيش الصهيوني الأعمى على أنظمة الذكاء الاصطناعي (لافندر وغوسبل) لتحديد 37 ألف هدف في غزة، كشف عن عجزه الذريع في التمييز بين المدنيين والمقاتلين، إذ سمحت الخوارزميات بقتل 20 مدنيًا مقابل إصابة مقاتل واحد، في وصمة عار لا يمكن محوها.

التواطؤ الأمريكي: موافقة الكيان الصهيوني الفورية على مقترح ويتكوف بعد تعديله، جعلت رفض حماس له يظهر بوضوح تواطؤ الولايات المتحدة الأمريكية، ليصبح الدور الأمريكي ملوثًا بدم الأبرياء.

 

أوراق حماس الخفية: ذكاء المناورات

 

لقد أجاد رد حماس استغلال الانقسامات الأمريكية-الصهيونية ببراعة، من خلال تصريح باسم نعيم بأن الولايات المتحدة وافقت على مقترح سابق قبل أن يعدّله الكيان الصهيوني، ما وضع واشنطن في مأزق أخلاقي لا تحسد عليه. كما طالبت الحركة بتسليم 18 جثة إسرائيلية مقابل معلومات عن الأسرى الفلسطينيين الأموات، مستغلة الحساسية الصهيونية المفرطة تجاه مسألة دفن الموتى.

وفي خطوة غاية في الذكاء، أعلنت حماس تشاورها مع الفصائل الفلسطينية قبل الرد، ما يجعل أي هجوم إسرائيلي عليها بمثابة اعتداء على "الإرادة الفلسطينية الموحدة"، في رسالة واضحة بأن غزة ليست وحيدة في معركتها.

 

تداعيات اللعبة التفاوضية: رقص على حافة الهاوية

 

بات الكيان الصهيوني عالقًا في معادلة مستحيلة: أي انسحاب يمثل انتصارًا رمزيًا لحماس، وأي رفض يعني استمرار عزلتها الدولية غير المسبوقة بعد مجزرة رفح. أما الولايات المتحدة، فقد وجدت نفسها في ورطة حقيقية: دعم حماس يعني إغضاب تل أبيب، ودعم تل أبيب يعني إفشال أي وساطة، لتصبح يدها مكبلة.
وفي غزة، يلوح شبح انفجار اجتماعي وشيك بعد نهب 77 شاحنة مساعدات في يوم واحد، ما ينذر بانتفاضة ثالثة إذا لم تُحل الأزمة سريعًا.
هكذا، تبدو لعبة المفاوضات في غزة اليوم أشبه بـرقصة على حافة الهاوية: كل طرف يحاول أن يربح النقاط دون السقوط في الفراغ. بردّها الذكي والمتدرج، نجحت حماس في كشف عجز الكيان الصهيوني عن فرض شروطه بالكامل، وفي الوقت نفسه دفعت واشنطن إلى مأزق أخلاقي وجيوسياسي يصعب تجاوزه. ومع استمرار المأساة الإنسانية كرافعة ضغط، بالإضافة إلى دعم الحوثيين الذي يضيف بعدًا استراتيجيًا آخر، تزداد خيوط اللعبة تشابكًا في انتظار لحظة حاسمة قد تغير موازين القوى في المنطقة بأكملها. هل ستنجح هذه الضغوط المتعددة في تحقيق حل عادل أم أن التصعيد هو المصير الحتمي؟


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
التعليقات (0)