قمع المسيرات السلمية: كيف تُخرب مصر أدواتها الناعمة لصالح الاحتلال؟

profile
  • clock 12 يونيو 2025, 9:51:40 ص
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

متابعة: عمرو المصري

بينما أعلنت منصات إعلامية انطلاق "المسيرة العالمية إلى غزة" اليوم الخميس، تزامنًا مع وصول "قافلة الصمود" من دول المغرب العربي إلى معبر رفح، كانت الأجهزة الأمنية في مطار القاهرة تتعامل مع المشاركين القادمين بشكل رسمي بمزيج من الاعتقال والترحيل والمنع. 

هذه المفارقة الصارخة بين الخطاب الرسمي والترحيب الإعلامي من جهة، والممارسات الأمنية الصادمة من جهة أخرى، تكشف ازدواجية السياسة المصرية تجاه أي تحرك شعبي يعبّر عن التضامن مع غزة، حتى وإن كان سلميًا ومنظمًا. المسيرة التي كان من المقرر أن تضم 4000 مشارك من 35 دولة، تنطلق من القاهرة إلى رفح لمسافة 48 كيلومترًا، بهدف دعم سكان غزة والتنديد بالحصار الإسرائيلي المفروض عليهم، تحوّلت في الواقع إلى ساحة مواجهة مع أجهزة الأمن المصرية التي استهدفت القادمين منذ لحظة وصولهم.

وفي خبر عاجل قبل قليل، أعلنت “فرانس برس”، نقلا عن المنظمين، توقيف أكثر من 200 ناشط أجنبي في القاهرة قبيل انطلاق “المسيرة العالمية إلى غزة”

 

اعتقالات بالجملة وترحيلات تعسفية

بحسب موقع "بلاست" الفرنسي، تم احتجاز عشرات الفرنسيين والجزائريين في مطار القاهرة دون طعام أو ماء، وتعرض الكثير منهم للاعتقال والترحيل بدعوى عدم توفر قائمة رسمية بالأسماء. كما داهمت الشرطة فنادق وسط القاهرة بحثًا عن المشاركين، وجرى ترحيل عشرة مواطنين فرنسيين بالفعل. أما موقع "مدى مصر" فنقل عن المحامية الجزائرية فتحية رويبي أنّ السلطات منعت 40 جزائريًا من الدخول، فيما أكدت ناشطة مغربية ترحيل عشرة من رفاقها. الأدهى أن السلطات المصرية لم تتورع عن ترحيل مواطنين أتراك فقط لأنهم رفعوا الأعلام الفلسطينية أمام الفندق. هذه الممارسات لا تعبّر عن احترازات أمنية مشروعة بقدر ما تعكس سياسة ممنهجة لقمع أي تحرك تضامني يخترق الخطوط الحمراء التي ترسمها الأجهزة الأمنية.

 

"ضوابط" الخارجية: التنظيم غطاء للمنع

في وقتٍ تتصاعد فيه الانتهاكات الأمنية، نشرت وزارة الخارجية المصرية بيانًا يتضمن ما أسمته "ضوابط المشاركة" في المسيرات أو الفعاليات التضامنية، حيث اشترطت الحصول على موافقات مسبقة عبر السفارات المصرية أو من خلال منظمات رسمية. 

غير أن هذه "الضوابط" تبدو في جوهرها مبررات جاهزة للمنع، وليست إجراءات تنظيمية حقيقية. فمن يضمن أن توافق الخارجية أصلًا على تلك الطلبات؟ خصوصًا أن كثيرًا من المرحّلين كانوا يحملون تأشيرات رسمية ودخلوا عبر مطار القاهرة بشكل قانوني. ما يحدث على الأرض يتناقض مع التصريحات، حيث تتعامل الدولة مع المشاركين وكأنهم خطر أمني، في حين أن تحركاتهم سلمية ومعلنة، وتندرج ضمن العمل المدني المشروع. الأسوأ من ذلك هو الهجوم الممنهج من وسائل إعلام موالية للنظام ضد المسيرة والمشاركين، والاتهامات المتكررة بتشويه النوايا والتحريض عليهم، وكأن الدولة تخوض معركة داخلية ضد كل من يرفع علم فلسطين أو يهتف لغزة.

الدولة تُحرج نفسها أمام العالم

الموقف المصري لا يقتصر على منع مسيرة أو اعتقال نشطاء، بل يصل إلى مستوى الإحراج الدولي العلني. فما يحدث من عدوان على غزة هو إبادة جماعية موثقة بالصوت والصورة: تجويع، تعطش، قصف مستشفيات ومدارس ومخيمات لاجئين. فأين الضرر في خروج مظاهرة سلمية تضم بضعة آلاف تضامنًا مع شعب يتعرض للتطهير؟ لماذا كل هذا الذعر من تجمّع أمام معبر رفح؟ 

وهل تخشى الدولة فعلًا أن يتجاوز هؤلاء الحدود؟ ألم تشهد مصر من قبل تظاهرات عديدة في محيط المعبر دون أن يحدث أي اختراق أو فوضى؟ المسألة لا تتعلق بالأمن، بل بطبيعة النظام الذي لم يعد يقبل أي فعل خارج "الهندسة الأمنية"، مهما كانت رمزيته أو سلميته. 

المثير للسخرية أن الحكومة المصرية تخشى "إحراج نفسها"، في وقت ترضخ فيه لدعوات وزير الحرب الإسرائيلي يسرائيل كاتس بمنع التظاهر على حدود غزة. فهل هناك إحراج أكبر من تنفيذ رغبات المحتل الإسرائيلي بينما تُقمع إرادة المتضامنين العرب والأجانب مع غزة؟ وهل تدرك الحكومة أنها بهذا تسهم ضمنًا في ترسيخ الاتهامات الموجهة لمصر في محكمة العدل الدولية بمشاركتها في حصار القطاع؟

 

غزة تحت الحصار ومصر تغلق الأبواب

منذ عام تقريبًا، حاولت مجموعة من النقابيين والسياسيين المصريين السير مع قوافل مساعدات إلى معبر رفح، وقدموا طلبات رسمية، بل نظموا وقفات أمام الخارجية المصرية دون جدوى. وكان ذلك في وقت لم تكن فيه دبابات الاحتلال قد اجتاحت المعبر بعد، مما يدحض مزاعم من يشكك في جدوى مثل هذه الفعاليات. إن منع التظاهرات والمسيرات في هذا الظرف لا يبرر بذرائع أمنية، بل يُفهم فقط ضمن سياسة عامة هدفها تقليص مساحة التضامن الشعبي وشيطنة أي فعل جماعي لا يخرج من رحم الأجهزة. ومع أن البعض يعتبر المسيرة مجرّد فعل رمزي، إلا أن الرمزية أحيانًا تتحول إلى رسالة قوية للعدو بأن هناك رأيًا عامًا عالميًا لا يوافق على جرائمه. كما أن قطاع غزة لا يملك حدودًا مع أي دولة غير مصر، وهذه الخصوصية تمنح مصر مسؤولية سياسية وأخلاقية، يمكن أن توظفها لصالح غزة، لا أن تحوّل حدودها إلى منطقة صامتة تمامًا حتى من الاحتجاج!

 

فرصة للمراجعة قبل فوات الأوان

بدلًا من هذه الإجراءات المخزية التي تتكرر منذ عام ونصف، حان الوقت لمراجعة جذرية في الموقف الرسمي المصري تجاه غزة. إذا كانت الحكومة تدّعي دعمها لأهالي القطاع، فعليها أن تُترجم هذا الدعم إلى أفعال، وليس إلى شعارات تُنتهك عند أول اختبار. السماح بالتظاهر السلمي والقانوني عند معبر رفح ليس فقط واجبًا وطنيًا، بل التزام إنساني. القمع المتواصل، والترحيل القسري، وشيطنة كل مبادرة شعبية لا يخدم سوى الاحتلال، ويحوّل مصر إلى شريك صامت - وأحيانًا نشط - في الجريمة. على الحكومة أن تعيد التفكير في أولوياتها، وتختار أن تكون في صف الشعوب المقهورة لا في صف المحتل القاتل.

التعليقات (0)