فهم تحركات ترامب: دبلوماسية تقوم على الغريزة

profile
  • clock 2 مايو 2025, 3:54:59 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

يعتمد دونالد ترامب في مقاربته للسياسة الخارجية بشكل شبه كلي على حدسه الشخصي وأقوال المحيطين به، دون أن يمتلك خطة استراتيجية طويلة الأمد أو رؤية واضحة. ووفقًا لما كتبه الأكاديمي الأمريكي آدم ماكونيل، في تحليل نشرته وكالة الأناضول، فإن قرارات ترامب تعكس افتقارًا لمنهجية مدروسة، ما يؤدي إلى نهج فوضوي في السياسة الخارجية. وإذا كان البعض قد حاول، سواء من أنصاره أو خصومه، إيجاد تفسير عقلاني لسلوكه المتناقض والمربك، فإن اعترافه بنفسه بأن قراراته قائمة على الغريزة فقط، يجب أن يدفعنا للتعامل مع هذا الواقع كما هو، والتركيز على كيفية التعامل مع الفوضى التي تخلقها قراراته المتسرعة.

عقلية تقوم على الخسارة والربح الصفري

يفكر ترامب بمنطق "اللعبة الصفرية"؛ فكل ربح تحققه دولة أخرى يُفسَّر بالنسبة له كخسارة مباشرة للولايات المتحدة. هذه النظرة تُسيطر على عقليته وتوجه قراراته في السياسة الخارجية، بحيث يرى في كل صفقة دولية توازنًا مختلًا ضده بالضرورة. فبدلًا من التفكير في الكسب المشترك الذي يشكل أساس النظام الدولي الحديث، يتعامل ترامب مع كل علاقة خارجية كمعركة يجب أن تنتهي بخاسر ورابح، وغالبًا ما يرى نفسه في موقع الضحية.

ملامح دبلوماسية ترامب: لا استراتيجية بل تناقضات

من بين المواقف القليلة التي أظهر فيها ترامب شيئًا من الاستمرارية، يمكن الإشارة إلى موقفه المتقلب تجاه الصين. فقد هاجمها بحدة مرارًا، لكنه في أحيان أخرى أثنى عليها. هذه المواقف تشير إلى ما يمكن وصفه بـ"نكسونية عكسية"، في إشارة إلى سياسة الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون الذي سعى في السبعينيات إلى تقويض علاقة الصين بالاتحاد السوفييتي عبر تقارب مع بكين. أما ترامب، فيسلك مسارًا مضادًا، عبر مهاجمة الصين وبناء علاقات ودّية مع روسيا.

لكن، بخلاف نيكسون ومستشاره للأمن القومي هنري كيسنجر، فإن ترامب لا يتحرك ضمن استراتيجية مدروسة أو رؤية طويلة الأمد، بل يتخذ قراراته بطريقة عشوائية. حاول البعض تفسير سلوكه باستخدام ما يسمى بـ"نظرية الرجل المجنون" التي نُسبت إلى نيكسون، لكن هذه النظرية كانت تُستخدم في حالات خاصة جداً، بينما ترامب يعتمد على سلوك غير متسق ومربك كقاعدة، لا كاستثناء.

شخصية معروفة منذ عقود

لدينا اليوم ما يكفي من الوقت والسجل لتقييم شخصية ترامب وسلوكه السياسي. فهو لم يكن شخصية مجهولة قبل دخوله البيت الأبيض عام 2017، بل قضى نحو ثلاثة عقود كوجه معروف في المجتمع النيويوركي، ومقدم برامج تلفزيونية. لذلك، يمكننا القول إن "شفرة أوكام" (التي تنص على أن أبسط تفسير هو الأقرب للصحة) هي الأداة الأنسب لفهم سياساته. فلو كانت لديه عقيدة متماسكة في العلاقات الدولية، لكنا عرفناها. غير أن ما يميزه هو افتقاده لأي التزام عقائدي أو أخلاقي تجاه السياسة الخارجية، إذ تحركه بشكل أساسي دوافعه الشخصية ومكاسب محتملة على المدى القصير.

التعريف المفضل لترامب: "الرسوم الجمركية"

من أبرز أدوات ترامب المفضلة في السياسة الخارجية "الرسوم الجمركية". في حين تُستخدم الرسوم عادة لحماية الصناعات الناشئة أو في سياقات سياسية محددة، فإن ترامب يوظفها كورقة ضغط وابتزاز في المفاوضات. كل دولة وكل منتج أجنبي هو في نظره هدف محتمل للرسوم، ما يسمح له بالتفاوض من موقع تهديد. وفي أكثر من مرة، فرض رسوماً ثم تراجع عنها بعد ساعات بمجرد أن حصل على تنازل، في سلوك يعكس طبيعته الانفعالية لا البراغماتية المدروسة.

في حادثة حديثة، أدت الرسوم الجديدة التي فرضها ترامب إلى اضطراب في وول ستريت، ما دفعه إلى سحبها بشكل مفاجئ، ما يشير إلى أن حتى هذه الأداة التي يُجيد استخدامها، يمكن أن تؤدي إلى نتائج عكسية عندما يُفرط في استخدامها. وفي مواجهة تلك الرسوم، بدأت قوى كبرى مثل الاتحاد الأوروبي والصين في الرد بالمثل، ما يهدد بإطلاق حرب تجارية واسعة.

ترامب والتشويه الكلي للنظام التجاري العالمي

السؤال الجوهري هو: لماذا يصر ترامب على استخدام الرسوم الجمركية بشكل مفرط، إلى درجة تهديد استقرار النظام التجاري العالمي؟ الجواب يكمن في قناعته بأن النظام التجاري الحالي يظلم الولايات المتحدة، متجاهلًا حقيقة أن هذا النظام، الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية، ساهم في خلق الازدهار الأمريكي. فقد تدفقت الثروات إلى الولايات المتحدة بفضل هذا النظام، وساعد في خلق عالم أكثر استقرارًا، وهو ما يصب في مصلحة واشنطن.

لكن ترامب لم يستوعب هذا المنطق؛ بل يرى في أي مكسب لدولة أخرى دليلاً على خسارة أمريكية. وهذه الرؤية الضيقة تمنعه من رؤية الصورة الكبرى، ما يجعله يفضل المواجهة الاقتصادية حتى وإن كانت على حساب المصالح الأمريكية البعيدة المدى.

ترامب في دور روزنكرانتس وغلدنسترن

يمكن تشبيه ترامب، في محاولته لفهم العالم من حوله، بشخصيتي روزنكرانتس وغلدنسترن من مسرحية شكسبير الشهيرة "هاملت"، كما أعاد تجسيدهما توم ستوبارد في مسرحيته العبثية الشهيرة. في هذه المسرحية، يمثل هذان الشخصان الإنسان الحديث التائه وسط أحداث لا يفهمها. وتمامًا مثلهم، يعتمد ترامب على حدسه الشخصي وعلى أقوال من حوله لفهم اللعبة التي هو جزء منها، دون أن يمتلك أدوات التحليل أو التخطيط الاستراتيجي.

وفي ضوء ذلك، فإن السياسة الخارجية الأمريكية في عهد ترامب لا تحكمها قواعد ثابتة أو رؤى بعيدة المدى، بل تتشكل وفقًا لمشاعره اللحظية وانطباعاته الشخصية. ويبقى الأمل في أن يتمكن في المستقبل من الإصغاء أكثر إلى صوت العقل والنصيحة الرشيدة، بدلاً من الانجرار خلف اندفاعاته غير المحسوبة.

التعليقات (0)