تكبير الخط تصغير الخط

تعيش المنطقة العربية منذ مطلع العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين حالة غير مسبوقة من التشكّل الجيوسياسي، حيث لا تعود الصراعات فقط إلى العوامل التقليدية، بل إلى تداخل عميق بين الطموحات الإقليمية، والتحولات العالمية، وعسكرة الحدود، و”خرائط غير معلنة” يعاد رسمها عبر أدوات ناعمة وخشنة على السواء. في هذا السياق، نجد أنفسنا أمام فرضية مركزية مفادها أن “الخرائط السياسية الرسمية لدول الشرق الأوسط لا تعبّر بدقة عن الواقع الفعلي على الأرض، وأن ثمة خرائط جديدة تُرسم بالفعل منذ سنوات، وإن كانت غير معلنة”. مع التركيز على التحولات الاستراتيجية التي قد تتبلور بوضوح بحلول عام 2030.

حدود ما بعد الدولة – من الطائف إلى الطوفان

تُظهر تجارب مثل لبنان، وسوريا، والعراق، وليبيا، أن الدولة الوطنية لم تعد الإطار الوحيد الحاكم للسلطة أو للهوية. فبعد عقود من محاولة احتواء الفسيفساء الطائفية والعرقية داخل حدود سايكس-بيكو، باتت تلك الحدود مجرد “إطار رمزي” أكثر من كونها حقيقية. تتحرك فواعل محلية، وفصائل مسلحة، ومليشيات عابرة للحدود بحرية، وتُفرض ضرائب ويُرفع العلم، وتدار الموارد، بعيدًا عن سلطات العواصم الرسمية.

ارتباط بالتحولات المتسارعة نحو 2030:

مع تسارع مشاريع “الاستقرار مقابل اللامركزية”، تزداد فرص تثبيت هذه الكيانات بحكم الأمر الواقع. وقد نصل بحلول 2030 إلى واقعٍ يُجبر المجتمع الدولي على “الاعتراف باللامعترف به”، ولو تحت تسميات إنسانية أو تنموية.

الطائرات دون طيار ترسم خطوط السيادة

الحروب الحديثة لم تعد بحاجة لجيوش تجتاح الحدود. اليوم، تحل المسيّرات، وفرق العمليات الخاصة، والهجمات السيبرانية محل الدبابات. فخرائط السيطرة لا تُرسم بالحبر على الورق، بل بالإحداثيات والضربات الدقيقة. لقد أعادت “حرب الظل” بين إيران وإسرائيل في سوريا ولبنان، وهجمات الحوثيين بطائرات مسيرة على العمق السعودي والإماراتي، رسم خريطة السيطرة الإقليمية بطرق خفية.

من المتوقع أن تزداد سيولة حدود السيادة مع استمرار انتشار التكنولوجيا العسكرية الرخيصة والدقيقة، ما يضع مفهوم “السيادة التقليدية” نفسه على المحك بحلول 2030.

خرائط الدم وتحولات الواقع

حينما تكون الخريطة السياسية ثابتة، لكنّ الوقائع اليومية تنقلب، تبدأ بما يُعرف بـ”خرائط الدم” بالظهور. تتجلى هذه الظاهرة في شمال سوريا، وغزة ما بعد الحروب المتعاقبة، والمخيمات الفلسطينية في لبنان، والحوثيين في اليمن، حيث تُرسم حدود الأمر الواقع بالدم، لا بالدبلوماسية. تصبح السيطرة مسألة سلاح وهوية محلية، لا قرارات مركزية.

ما دامت الحلول السياسية مجمدة، فإن هذه الخرائط الواقعية ستترسخ، وربما تجد طريقها نحو الاعتراف غير الرسمي أو “التثبيت التدريجي”، كما حدث مع مناطق الحكم الذاتي في العراق أو قبرص الشمالية سابقًا.

ما الذي تغيّر منذ 2020؟

منذ انتشار جائحة كورونا، بدا العالم كما لو أنه يعيد تعريف أولوياته. أعقب ذلك الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، وصعود روسيا والصين كلاعبين غير تقليديين في المنطقة، وتصاعد التوترات في البحر الأحمر. كل هذه العوامل أدّت إلى خلق فراغات استراتيجية استُغلت لصالح تشكيل خرائط جديدة غير مُعلنة، عبر فاعلين محليين وإقليميين غير خاضعين لسلطة الدولة المركزية.

ماذا بعد؟

إذا استمرت الاتجاهات الحالية، فقد لا يكون عام 2030 لحظة انفجار، بل لحظة “اعتراف متأخر” بأن الخريطة الرسمية للشرق الأوسط ليست سوى مرآة مكسورة لواقع مغاير. إن خرائط الدم لا تعني فقط نشوء كيانات جديدة، بل تعني تحوّلات في مفاهيم الدولة والسيادة والشرعية. وربما – على غرار ما حدث في البلقان بعد الحرب الباردة – سيضطر العالم إلى قبول تسويات هجينة، لا هي دول جديدة ولا هي ولايات قديمة.

“قد يكون مستقبل الشرق الأوسط ليس في صراعه بين الدول، بل في صراعه داخلها – على من يحق له أن يرسم الخريطة من جديد.”