د. محمد الصاوي يكتب: النظام العالمي الجديد يُكتب الآن… لكن من يملك القلم؟

profile
د. محمد الصاوي باحث في العلاقات الدولية
  • clock 14 يوليو 2025, 10:25:49 ص
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

في مطلع العام 1945، كانت واشنطن ولندن تتقاسمان حلمًا: نظام دولي تحكمه القواعد، تقوده المؤسسات، وتحميه القوى الكبرى. لكن في عام 2025، يبدو أن نفس الحلم يُعاد رسمه — بأدوات مختلفة، وأيدٍ جديدة. السؤال الآن: من يرسم خريطة المستقبل؟

    في لحظة ما من التاريخ، بدا أن النظام العالمي يشبه نادياً حصرياً لا يُفتح إلا بدعوة من الغرب. كان المفهوم السائد أن السيادة، حقوق الإنسان، وحتى التبادل التجاري، كلها معايير “طُبخت” في العواصم الغربية، وعلى الآخرين أن يكتفوا بتذوقها.

لكن هذا لم يعد مقبولًا — لا أخلاقيًا، ولا واقعيًا.

اليوم، ومع صعود آسيا، وانبعاث إفريقيا، وصحوة أمريكا اللاتينية، بات “النظام الدولي” نفسه على المحك. ليس لأنه ينهار، بل لأنه يُعاد تشكيله من جديد — بهدوء، ولكن بثبات.

ليس انقلابًا… بل تصحيحٌ متأخر للتاريخ

لنفكر بالأمر من زاوية مغايرة:
لماذا نظن أن مفاهيم مثل السيادة، احترام الحدود، وعدم التدخل هي اختراع أوروبي خالص؟
الحقيقة أن الحضارات غير الغربية — من الهندوس إلى المسلمين، من الصينيين إلى حضارات وادي النيل — طوّرت أشكالًا متقدمة من التنظيم الدولي. وقبل أن تُكتب معاهدة ويستفاليا، كانت هناك تفاهمات دبلوماسية، واتفاقيات لحرية الملاحة، ونظم لتحكيم النزاعات.
إذن، ما يحدث اليوم ليس تمردًا على النظام العالمي، بل استعادة لصوتٍ غُيّب طويلًا.
الجنوب العالمي: اللاعب الذي تأخر ظهوره كثيرًا. لأول مرة منذ عقود، نرى دولًا من الجنوب العالمي — الهند، البرازيل، إندونيسيا، تركيا، وحتى نيجيريا — تطالب بحقها ليس فقط في الحضور، بل في الصياغة.
 

الحديث لم يعد يدور حول “كيف نلحق بركب النظام الدولي”، إنما :“كيف نعيد تشكيل هذا النظام ليُعبّر عن تنوعنا واحتياجاتنا؟”، وهذا لا يعني بالضرورة نهاية الغرب. لكنه  يعني أن الغرب لم يعد الوحيد الذي يملك القلم لكتابة القواعد.


تعددية بلا فوضى؟ ممكن… بشروط

قد يقول البعض: “ التعددية تعني الفوضى”.
ويأتي  الجواب هنا واضح:
التعددية لا تعني غياب القواعد، هي  تعني تفاهمًا على قواعد تُصاغ بشكل مشترك.

نعم، العالم لن يكون سهل الإدارة.
لكن هل كان كذلك أصلًا؟. في كل مرحلة تاريخية، كانت التحديات موجودة — من الحرب الباردة إلى الإرهاب العالمي. الجديد اليوم هو أن هناك فرصًا حقيقية لإعادة توزيع النفوذ بشكل أكثر عدالة.

التنافس التعددي: وجه جديد للقوة

المرحلة المقبلة ستشهد ما يمكن تسميته بالتنافس التعددي. ليست حربًا باردة جديدة، بل لعبة معقدة من التوازنات، حيث تتقاطع المصالح، وتتنافس الدول على النفوذ دون أن يُسيطر طرف واحد على كل شيء.
هنا تبرز أهمية المؤسسات الدولية: لا كحُكام محايدين فقط، بل كمساحات تفاوض وتنسيق بين الفاعلين الكبار والصغار. وهو ما يفتح الباب أمام الدول النامية — إن أحسنت التنظيم — لأن تصبح “صانعة قواعد”، لا مجرد ملتزمة بها.

القوة الناعمة ستُحدد الفائزين
    لم تعد القوة مجرد طائرات ومليارات.
بل باتت في بناء الشراكات، القدرة على الإقناع، تملك السردية ، والتحكم في المنصات الرقمية والبيئية والاقتصادية. الدول التي ستنجح هي تلك التي تجمع بين القوة الصلبة والناعمة، وتعرف كيف تمارس تأثيرًا ذكيًا لا يصطدم بالعوائق، بل ينساب عبر الفضاءات الجديدة.

- التساؤل الأهم الآن هو : ما العمل؟ حوار، لا هيمنة

لن يكون هناك سلام دولي مستدام بدون الاعتراف بأن العالم تغيّر. صعود الجنوب ليس خطرًا، بل فرصة؛ لكن هذا يتطلب:
من الغرب أن يعترف بشراكة حقيقية، لا مشروطة ؛ ومن الجنوب أن يقدّم بدائل لا شعارات ؛ ومن المؤسسات الدولية أن تتحول من أدوات ضغط إلى ساحات تفاوض متكافئة.

- وفي النهاية نأتي إلى لحظة الحقيقة
    العالم لا يسير نحو الفوضى، بل نحو نظام جديد لم تتضح معالمه بعد ، و لكن ما هو واضح تمامًا هو أن الزمن الذي كانت فيه دولة أو دولتان تُقرّران مصير العالم قد انتهى ؛ نحن أمام لحظة لا تُقاس بالقوة فقط، بل بالقدرة على تخيّل نظام عالمي مختلف ، أكثر عدالة، أكثر شراكة، وربما… أكثر إنسانية.
في نهاية المطاف، لسنا أمام عالمٍ ينهار، بل أمام عالمٍ يتشكّل. النظام القديم يترنّح، لكن الجديد لم يُكتب بعد. وما هو واضح أن القلم لم يعد في يد واحدة. فهل نحن مستعدون للمشاركة في رسم الخريطة، لا فقط في قراءتها؟


المصادر :

Acharya, A. (2018). The End of American World Order. 2nd ed. Cambridge: Polity Press.
• CFR – Council on Foreign Relations (2024). What is the Global South?. Available at: https://www.cfr.org/backgrounder/what-global-south
• Khanna, P. (2022). The Future is Asian: Commerce, Conflict and Culture in the 21st Century. New York: Simon & Schuster.
• Reuters (2025). Calling the ‘Global South’, your time is … now?. 14 May. Available at: https://www.reuters.com/markets/calling-global-south
• The Guardian (2025). BRICS Summit in Brazil tries to reinvent collective approach. 7 July. Available at: https://www.theguardian.com/environment/2025/jul/07/brics-summit
• Zakaria, F. (2023). The Post-American World: Ten Years Later. W.W. Norton & Company


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
التعليقات (0)