-
℃ 11 تركيا
-
15 يونيو 2025
حسن إصليح: الصحفي الذي كتب الحقيقة بالدم.. فاغتالوه مرتين
حسن إصليح: الصحفي الذي كتب الحقيقة بالدم.. فاغتالوه مرتين
-
13 مايو 2025, 2:25:54 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
الصحفي الشهيد حسن إصليح
في جناح هادئ من مجمع ناصر الطبي في خانيونس جنوب قطاع غزة، كان يرقد الصحفي الفلسطيني حسن إصليح، مثخنًا بالجراح، محترق الجسد، لكنه ما يزال يقبض على حلمه بكاميرا وحقيقة. أغمض عينيه قليلًا ليقاوم الألم، غير مدرك أن السماء التي ألقت عليه نارها في المرة الأولى، عادت لتكمل المهمة. في جريمة تتخطى كل الأعراف والمواثيق، تعمد الاحتلال الإسرائيلي قصف المستشفى الذي كان يتلقى فيه العلاج، ليغتال حسن إصليح اغتيالًا جسديًا بعد أن فشل في قتله معنويًا.
الجريمة: امتلاك كاميرا.. ورؤية واضحة
لم يكن حسن يحمل سلاحًا يومًا، لم يكن في خندق ولا في صفوف عسكرية، بل كان في الخندق الأكثر خطرًا: خندق الكلمة والصورة. حمل الكاميرا منذ عام 2009، وتربّى على الميدان، يغطي الغارات، يوثق الشهداء، ينقل آهات الناجين من تحت الركام، دون تحريض، دون انحياز، سوى لما يُمليه عليه ضميره. ومع تصاعد العدوان على غزة في أكتوبر 2023، بزغ اسمه كأحد أكثر الصحفيين تأثيرًا وجرأة، حتى صار يُعرف بين زملائه بـ"أيقونة الإعلام الميداني".
ومع بدء عملية طوفان الأقصى، لم يتأخر حسن، فكان أول من وثّق لحظة إحراق الدبابة الإسرائيلية في 7 أكتوبر، وقدّم للعالم صورًا من قلب الحدث. لم تكن الصور عادية، بل كاشفة، مؤلمة، وهنا ارتكب حسن جريمته الكبرى في نظر الاحتلال: نقل الحقيقة.
محاولة اغتيال أولى.. ورحيل الأصدقاء
في ليل السابع من أبريل 2024، استهدف الاحتلال خيمة الصحفيين في خانيونس، حيث كان حسن يواصل عمله رغم خطر الموت. تحوّل الهدوء هناك إلى جحيم مشتعل، سقط ثلاثة من زملائه شهداء: أحمد منصور، حلمي الفقعاوي، ويوسف الخزندار، وأصيب حسن بشظايا في رأسه وكفه، ليبدأ فصلًا جديدًا من الألم والمعاناة، لكنه لم يتوقف. كان يُعالج، لكنه بقي حاضرًا بقلمه وعدسته، يرسل التحديثات، يحكي ما يراه، كأن الكاميرا امتداد لجسده الذي يرفض الصمت.
استهداف ممنهج.. وتحريض مركّب
منذ أكتوبر، لم يكن حسن بمنأى عن حملات تحريض ممنهجة. الإعلام الإسرائيلي، بمؤسساته الرسمية، بدأ يصفه بـ"الإرهابي الصحفي"، وتحوّلت صورته من مصور مستقل إلى "هدف مشروع". ومنظمة "Honest Reporting" الموالية لإسرائيل، وضعت اسمه في قائمة سوداء، مشيرة إلى صورته مع الشهيد يحيى السنوار، زعيم حركة حماس، واعتبرت ذلك دليلًا على "تورطه".
حتى وزير الحرب الإسرائيلي السابق بيني غانتس غرد مهاجمًا حسن، معتبرًا أن الصحفيين الذين نقلوا وقائع 7 أكتوبر يجب معاملتهم كإرهابيين. وشارك في الحملة مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي، مطالبًا المؤسسات الإعلامية الكبرى بقطع التعاون مع المصورين "الموالين لحماس"، وكان حسن في قلب العاصفة.
لكن الأمر لم يتوقف عند إسرائيل، فحتى أبواق من السلطة الفلسطينية وحركة فتح، شاركوا في التحريض، بالتوازي مع جهود الاحتلال، ليغدو استهداف حسن ثمرة قذرة لتنسيق أمني وإعلامي، يتقاطع عند نقطة واحدة: إسكات صوت المقاومة من غزة.
رسالة في زمن العتمة.. واغتيال في حضن المستشفى
بعد شهر من إصابته، وفي ظلال العتمة التي تُخيم على قطاع غزة المحاصر، كان حسن يحاول أن يتعافى في مجمع ناصر. لكن الاحتلال لم يكتف بمحاولة قتله الأولى، ولا بالحرق المعنوي. ففي لحظة صمت مطبق، استهدفت طائراته قسم الجروح في المستشفى، ليرتقي حسن شهيدًا، وهو على سرير العلاج، أعزل، مريض، لا يقوى على الحركة، لكنه "مذنب" في نظر إسرائيل، لأنه كان شاهدًا على الجريمة.
لم تكن غارة على "هدف عسكري"، بل على صحفي مصاب، ذنبه الوحيد أنه أبى أن يكون مجرد رقم، فاختار أن يكون عينًا للناس في زمن العمى.
حسن.. ذاكرة الصورة وضمير الأرض
لم يكن حسن مجرد صحفي، بل راوي غزة الأصيل، وصوت الناس الذين يُذبحون بصمت. أطلق قناة عبر تيليغرام تابعها مئات الآلاف، وكان أول من ينقل الأخبار، يوثق الدمار، ينشر أسماء الشهداء، يردّ على الأكاذيب، ويوصل الصوت إلى كل ركن في العالم. لم يعمل لصالح فصيل، بل لصالح الإنسان.
رغم كل ذلك، خضع بعض الإعلام الغربي لضغوط إسرائيل، فعلقوا التعاون معه. لكن وكالات كـ رويترز وأسوشيتد برس دافعت عنه، وأكدت أنه كان يعمل مستقلاً لصالحهم، وأنه لم يرتكب أي مخالفة مهنية، بل مارس دوره الصحفي بشجاعة في منطقة حرب.
رحيل الجسد.. وبقاء الرسالة
اغتيل حسن إصليح جسديًا في 13 مايو 2024، لكن ذاكرته، وصوره، وصرخات التقارير التي بثها، ستبقى فينا. فقد رحل، لكن عينه ستبقى معلقة على الدبابة التي وثقها، وعلى الأطفال الذين صرخوا فوثّق صراخهم، وعلى الخراب الذي دوّنه دون خوف. حسن لم يمت، بل انتقل من خلف العدسة إلى قلب الرواية، شهيد الحقيقة.
في زمنٍ صارت فيه الحقيقة هدفاً، برز حسن إصليح لا كناقل للخبر، بل كجزء منه. أصبح بصورته وكلمته أحد فرسان الإعلام وثوار الصورة الصحفية، حاملاً أمانة غزة في قلبه وعدسته، حتى صار وجه فلسطين للعالم.
لم يكن مجرد صحافي، بل شاهدًا وشهيدًا حيًا لكل لحظة قصف ودم. سلاحه كان الكاميرا، وميادانه شوارع غزة. وثّق الألم بشجاعة، واقترب من الخطر ليقول الحقيقة، فأرعب الاحتلال وأزعجه، حتى نشروا صورته مع يحيى السنوار تمهيدًا لاستهدافه.
ومع كل تهديد، لم يتراجع. بل كتب، وحذّر، وصمد. حتى كانت الفاجعة، واستُشهد حسن... رحل الجسد، وبقي الأثر.







