-
℃ 11 تركيا
-
3 أغسطس 2025
اسماعيل جمعه الريماوي يكتب: إسرائيل في وحل غزة: حين تتحوّل القوة إلى عبء والميدان إلى فخ
اسماعيل جمعه الريماوي يكتب: إسرائيل في وحل غزة: حين تتحوّل القوة إلى عبء والميدان إلى فخ
-
9 يوليو 2025, 12:43:07 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
تشهد المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة تطورًا تكتيكيًا لافتًا في أدائها الميداني، وهو تطور لم يأتِ من فراغ، بل نتيجة لتراكم الخبرة وعمق الفهم لطبيعة المعركة وتضاريس الميدان. العمليات الأخيرة التي نُفذت ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي سوءا في بيت حانون أو خانيونس لا تُعبّر عن ردود فعل غاضبة أو مواجهات عشوائية، بل تعكس عقلية تخطيط استراتيجي متقدمة، كمائن محكمة، عمليات تصوير ميدانية عالية الدقة، تنسيق متكامل بين وحدات التفخيخ والقنص، وقدرة واضحة على إدارة الاشتباك وفق إيقاع تختاره المقاومة لا الاحتلال، ذلك يدل على أن المقاومة باتت تقاتل بعقلية القائد لا المحاصر، وباستراتيجية المهاجم لا المدافع.
في ميدان غزة، لم تعد المقاومة تُفكر كحركة محاصَرة تسعى لردع التوغلات فقط، بل باتت تُحدد الزمان والمكان وتفرض قواعد الاشتباك بما يناسبها هي ، نُقل الاشتباك من حالة الدفاع إلى تكتيك هجومي مدروس، تسبقه عمليات تمشيط للمعلومات وتقدير دقيق للثغرات، ويُدار على مراحل متداخلة: تفجير عبوة ناسفة، قنص، انتظار فرق الإنقاذ ثم استهدافها، وفي النهاية تصوير العملية لإرباك الداخل الإسرائيلي وكشف هشاشة جيش الاحتلال .
ما يجري في غزة لم يعد يُمكن وصفه إلا بحرب استنزاف متعددة الأبعاد تقودها المقاومة الفلسطينية ، حرب تستنزف البشر والسلاح، المعنويات والقرار السياسي في آن معًا.
الناطق العسكري باسم كتائب القسام "أبو عبيدة" وصف الأمر بوضوح: "نحن نخوض معركة استنزاف طويلة النفس، ولن تكون غزة كما قبل" وهذا ليس مجرد شعار،المؤشرات من الميدان تؤكد أن الجيش الإسرائيلي يُستدرج إلى مساحات ضيقة، ويُستنزف يوميًا في الأرواح والمعدات، ويتلقى خسائر متكررة في صفوف وحداته الخاصة والنخبوية مثل "جولاني" و"جفعاتي" و"نتساح يهودا".
الجنود الإسرائيليون باتوا يتحركون في ظل هاجس دائم من الوقوع في كمين، فيما تضطر القيادة إلى استدعاء مروحيات وطائرات استطلاع بعد كل اشتباك، تحسّبًا لما بعد العملية، مما يكلف الجيش أعباء لوجستية هائلة تفوق نتائج أي توغل.
لقد وقعت إسرائيل في وحل غزة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فبعد أكثر من عشرين شهرًا على العدوان، لم تحقق تل أبيب أيا من أهدافها المعلنة: لا القضاء على حماس، ولا استعادة الأسرى، ولا كسر إرادة غزة، بل على العكس، تحوّل القطاع إلى مستنقع يبتلع جيشًا بأكمله. باتت إسرائيل تُقاتل في مساحة صغيرة لكنها تتحول إلى "مقبرة تكتيكية" لكل تقدم ميداني.
العمليات التي استهدفت مؤخرًا وحدات النخبة وكبار الضباط، لا تدل فقط على تفوق ميداني بل على اختراق استخباري عميق لدى المقاومة، في مقابل ارتباك إسرائيلي في جمع المعلومات وتقييم التهديدات، ما دفع رئيس الأركان الإسرائيلي إلى الاعتراف بفشل التنسيق بين الأذرع الأمنية، بينما يتحدث جنرالات في الاحتياط عن "حرب بلا أفق" و"فقدان السيطرة على مجريات الميدان".
اما في داخل إسرائيل، حيث تزايدت الأصوات التي تُحمّل الحكومة المسؤولية عن التورط في مستنقع غزة ،فالعدوان الذي انطلق بشعار "إزالة التهديد" تحوّل إلى كارثة استراتيجية. المجتمع الإسرائيلي بات يعيش حالة من التذمر والتآكل في الثقة بالمؤسسة الأمنية، وسط ارتفاع مستمر في عدد القتلى والجرحى، وتكلفة اقتصادية خانقة، وتراجع صورة الجيش أمام جمهوره الداخلي وحول العالم.
إن ما يحدث في غزة يعيد تعريف مفاهيم عديدة: القوة لم تعد متمثلة في امتلاك الطيران والدبابات فحسب، بل في القدرة على امتصاص الضربة وإعادة توجيهها، والتفوق لا يُقاس بعدد الطلعات الجوية بل بمدى صمود الأرض وروح الإنسان عليها، لقد قلبت غزة المعادلة، ونزعت عن إسرائيل صفة "الجيش الذي لا يُقهر"، وحولتها إلى جيش يبحث عن الخروج لا النصر، وعن التهدئة لا الحسم.
لقد دخلت إسرائيل إلى غزة ظنًا منها أن بإمكانها حسم المعركة بالقوة، فوجدت نفسها غارقة في وحلٍ لا قاع له ، سقطت أوهام الردع، وانكشفت هشاشة المؤسسة العسكرية، وأثبتت غزة مرةً أخرى أن القوة لا تُقاس بالترسانة، بل بالثبات والعقيدة والبصيرة ، ومع كل يوم جديد، تكتب المقاومة معادلة ردع جديدة، تجعل من استمرار العدوان مغامرة غير محسوبة، ومن الخروج خيارًا أثقل من الدخول.









