أساليب تجويع نازية: كيف تتعمّد إسرائيل استخدام "الإغاثة" كفخ ميداني؟

profile
  • clock 4 يونيو 2025, 11:43:43 ص
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01
الكاريكاتير للفنان كمال شرف

متابعة: عمرو المصري

في صورة تختصر حجم المأساة وتكثف فظاعة الجريمة، تركع امرأة فلسطينية وسط غبار الدمار، لا يبدو عليها الكِبر، لكن الجوع جعلها هرِمة. جسدها المهزول يكشف عظامًا بارزة من تحت ثوب رث، أصابعها تحفر الأرض بحثًا عن فتات دقيق، ليس حبوبًا كاملة، بل بقايا سحقها الزمن والقذائف والنعال. ثم، تنكسر. لا تنهار بصمت، بل تصرخ صرخة تمزق سكون الشارع المهدم: "مش حرام أولادي ياكلوا من الأرض".

 

هذه ليست مجرد مجاعة. إنها عملية ممنهجة لتحطيم شعب بأكمله، لدفعه إلى ما بعد حدود التحمل البشري. ما يُقدّم لغزة تحت اسم "مساعدات إنسانية" ليس توزيعًا، بل إذلالًا متعمدًا، ولا يحمل راية الرحمة، بل طقوسًا متكررة للإهانة.

الطحين كسلاح: الإغاثة فخ للموت

الدقيق لم يُوزع، بل احتُجز، تُرك عمدًا ليصبح طُعمًا. عائلات منهكة سارت لمسافات طويلة، متجاوزة جثثًا وحُفرًا وركامًا، لتصل إلى "نقاط التوزيع"؛ وهناك، وجدت أقفاصًا وجنودًا وطائرات مسيرة. وعندما اقتربوا من الطعام، أُطلقت النار عليهم.

في مشهد يعيد إنتاج مجازر التاريخ، استشهد أكثر من 30 فلسطينيًا وجُرح أكثر من 170 في رفح أثناء محاولتهم الحصول على مساعدات. العملية تمت بتنسيق مع ما يُعرف بـ"مؤسسة غزة الإنسانية"، المدعومة أمريكيًا. لكن هذه المؤسسة لا توزع الغذاء، بل توزع المعاناة، وتسوقها على أنها "إغاثة".

حتى الكمية الموعودة – 1750 سعرة حرارية للشخص – لا تكفي للبقاء على قيد الحياة؛ فالحد الأدنى المحدد من منظمة الصحة العالمية هو 2100 سعرة. لكن الفلسطينيين في غزة لا يحصلون حتى على ذلك، ببساطة لأن الطعام لا يصل أصلًا. في أبريل 2024، كان متوسط ما يحصل عليه الفرد في شمال غزة هو 245 سعرة يوميًا، أي أقل من علبة فول.

الموت ببطء: استهلاك الذات

الجوع يدفع الناس إلى أكل الطحين الممزوج بالرمل، وإطعام الأطفال أوراق الشجر. تبدأ الأجساد بأكل نفسها، وتتباطأ الأنفاس، ويتلاشى الوعي. الموت لا يأتي هنا بقنبلة، بل بهمسٍ في البطن: فارغ، فارغ، فارغ.

كل هذا ليس صدفة، بل تكرار حرفي لتكتيك قديم: نسخة محدثة من خطة الجوع النازية.

خطة الجوع النازية: التاريخ يعيد نفسه في غزة

في عام 1941، وقبيل غزو ألمانيا للاتحاد السوفيتي، صاغ ريتشارد دارّي وهربرت باكي خطة تُعرف بـ"Hungerplan"، تهدف إلى تجويع ملايين المدنيين عمدًا لتوفير الطعام للجيش النازي. هذه الخطة قتلت سبعة ملايين إنسان، ليس عن طريق الخطأ، بل كسياسة مقصودة.

كان نظام توزيع الطعام يعكس تراتبية عنصرية: 100% للألمان، 70% للبولنديين، 30% لليونانيين، و20% لليهود. وفي الغيتوهات اليهودية، أصبح الطعام سلاحًا، والمتاجر خالية، والجوع سياسة.

واليوم، يُفرض على أكثر من مليوني فلسطيني في غزة مجاعة مقصودة، مخططة، تشمل الجميع: نساءً ورجالًا، أطفالًا وعجائز. لا أحد يُستثنى.

في تكرار فاضح لخطة الجوع النازية، تعلن "مؤسسة غزة الإنسانية" أنها ستخدم 1.2 مليون شخص فقط في المرحلة الأولى، تاركة بقية السكان للموت. وهذا ليس رقمًا عابرًا، بل وثيقة إدانة.

المعدل اليومي للفرد، بعد هذا "الجهد الإنساني"، سيكون أقل من 1000 سعرة، وهو تقريبًا ما كان يحصل عليه اليهود في غيتو وارسو.

جوعٌ يُدار من المكاتب: السخرية من الضحايا

تُصنّف غزة اليوم كـأكثر مكان مهدد بالمجاعة على وجه الأرض، حيث يتعرض 100% من السكان لخطر المجاعة بحسب الأمم المتحدة.

وفي مقابل هذه الحقيقة المروعة، يعلن وزير المالية الإسرائيلي، بتسلئيل سموتريتش، أن "ليس حبة قمح واحدة" يجب أن تدخل غزة. أما في بريطانيا، فتقترح منظمة "محامون بريطانيون من أجل إسرائيل" أن الحرب قد تُفيد "في تقليل السمنة" في غزة!

هذه ليست فقط قسوة، بل احتقار صريح للحياة البشرية، وسخرية من آلام الموتى.

حتى المدير التنفيذي السابق لمؤسسة "GHF"، وهو ضابط أمريكي سابق، استقال من منصبه، قائلًا إن المشروع لا ينسجم مع أبسط المعايير الإنسانية. لم يكن برنامج إغاثة، بل حصارًا مقنّعًا بخطاب كاذب.

فوضى مقصودة: تحطيم المجتمع

تُنهب قوافل المساعدات من قبل عصابات مسلحة تتحرك بحرية في مناطق تسيطر عليها إسرائيل. وثيقة داخلية للأمم المتحدة، نشرتها "واشنطن بوست"، كشفت أن تلك الجماعات قد تحظى بـ"تواطؤ صامت، إن لم يكن دعمًا مباشرًا" من الجيش الإسرائيلي.

وحين حاول الحراس في غزة حماية الإغاثة، جاءت الغارات الجوية الإسرائيلية، فقَتلتهم – لا اللصوص.

هذا ليس انهيارًا عفويًا، بل هندسة للانهيار. الهدف هو تحويل الجوع إلى فوضى، والمجاعة إلى استسلام.

من التجويع إلى سحق الكرامة

العالم مليء بالحروب، بالنزاعات، باللجوء. لكن لا مكان على وجه الأرض يُحاصر فيه شعبٌ كامل، يُقصف من الجو والبحر، ويُجَوّع عمدًا، ويُمنع من النجاة.

غزة لم تعد ساحة حرب، بل سجن كبير، مقبرة جماعية.

قبل 80 عامًا، وثّق أطباء يهود في غيتو وارسو آثار الجوع على الجسد البشري، وأصدروا كتابًا بعنوان Maladie de Famine (مرض المجاعة). كتب الطبيب إسرائيل ميليكجوفسكي: "أُمسك قلمي بيدي والموت يحدق في غرفتي... في هذا الصمت الكاسح تكمن قوة ألمنا والأنين الذي سيهز يومًا ضمير العالم".

اليوم، أطباء غزة يكتبون ذات الكلمات، لكن بأجساد الأطفال الغارقة بالهزال. يعالجون رضعًا لم يأكلوا منذ أيام، يشهدون موتهم بأعين مفتوحة، يتحدثون إلى العالم، لكن لا أحد يُنصت.

سحق الروح: إسرائيل تريد أكثر من القتل

لقد فقد الفلسطينيون في غزة منازلهم، مدارسهم، مخابزهم، وأجبروا على النزوح مرارًا، يحملون أطفالًا على الأكتاف، وعجزة على الكراسي، وأُسرًا كاملة تحولت إلى رماد. والآن، يُحرمون حتى من الخبز.

شعب غزة لا يُجَوَّع فقط، بل يُجرَّد من آخر ما تبقّى له: الكرامة.

يُعاملون كأنهم أقل من الحيوانات. يُقتلون وهم يتجمعون، يُقنصون وهم يأكلون.

لأن إسرائيل لا تكتفي بسحق الجسد الفلسطيني، بل تسعى إلى سحق الروح، واغتيال الإرادة، ومسح الوجود.

وفيما ينظر العالم بعيدًا، هناك، وسط ركام لا نهاية له، تركع أم.

ما زالت تحفر. ما زالت تبكي.

تحاول أن تطعم أبناءها بدقيقٍ مخلوط بالتراب... ومغمّس بالدم.

التعليقات (0)