-
℃ 11 تركيا
-
2 أغسطس 2025
عبدالرحمن كمال يكتب: الأسئلة المسكوت عنها في مأساة الطريق الإقليمي
عبدالرحمن كمال يكتب: الأسئلة المسكوت عنها في مأساة الطريق الإقليمي
-
29 يونيو 2025, 12:42:48 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
في صباح الجمعة، 27 يونيو 2025، استيقظ المصريون على فاجعة جديدة على الأسفلت: حادث مروع على الطريق الدائري الإقليمي بمحافظة المنوفية، راح ضحيته 19 شخصًا، بينهن 18 فتاة في مقتبل العمر، إضافة إلى سائق المركبة. الفتيات كنّ في طريق عودتهن من العمل بإحدى المزارع، بأجر لا يتجاوز 130 جنيهًا في اليوم (أقل من دولارين ونصف الدولار)، عندما اصطدمت مركبتهن بسيارة نقل ثقيل، في منطقة يغلفها الظلام، ويخترقها هبوط أرضي لم تُعالج عيوبه رغم مرور ست سنوات فقط على افتتاح الطريق.
المشهد مألوف: نعوش متراصة، دموع الأمهات، وأصوات الحزن تنوح في القرى. لكنه ليس مجرد تكرار لمأساة، بل إعادة إنتاج لمنظومة كاملة من الصمت والتواطؤ والتجريف. فما الذي لم يُقَل؟ وما هي الأسئلة التي تحاشاها الإعلام، وتجنبها السياسيون، وغابت عمدًا عن واجهة النقاش العام؟
من المسؤول حقًا؟ هل السائق وحده؟
في مشهد بات نمطًا مألوفًا، سارعت وسائل الإعلام إلى تحميل المسؤولية لسائق سيارة النقل الثقيل التي دهست سيارة الضحايا. لكن الحقيقية أوسع، وأشد تعقيدًا. هل السائق كان هو من وافق على تشغيل الطريق رغم الهبوط الأرضي؟ هل هو من قرر أن تظل الإنارة غائبة عن طريق سريع يمتد لأكثر من 400 كيلومتر؟ هل هو من قرر خفض تكلفة الصيانة لمصلحة الجهة المُشغِّلة؟
من الناحية الرسمية، الطريق نُفِّذ عبر شراكة بين شركة النيل العامة للطرق والكباري (التابعة لوزارة النقل)، والإنتاج الحربي، وشركة بتروجيت، وأدارته بعد تشغيله شركة "الوطنية للطرق" التابعة لجهاز مشروعات الخدمة الوطنية – ذراع من أذرع القوات المسلحة. وهذه الجهة، بحسب مصادر محلية، كانت تتحمل المسؤولية الكاملة عن إدارة الطريق وصيانته، دون إشراف مباشر من وزارة النقل أو هيئة الطرق والكباري.
فهل يُعقل أن تسقط هذه السلسلة كلها من الحسابات، ويُلقى العبء كله على سائق؟
أين كامل الوزير؟ ولماذا الغياب الإعلامي التام؟
في أي دولة تحترم مواطنيها، كانت هذه الكارثة كفيلة بإقالة وزير النقل أو على الأقل مساءلته علنًا. لكن الوزير كامل الوزير، الذي تولى المنصب عام 2019 بعد مشوار طويل في الهيئة الهندسية للقوات المسلحة، غاب اسمه تمامًا عن التغطية الإعلامية. لم تطرح قناة أو صحيفة، حتى من تلك التي تدعي الاستقلالية، سؤاله البديهي: ما دور الوزير في انهيار طريق كلف مليارات الجنيهات خلال أقل من سبع سنوات؟
تسريبات من داخل مؤسسات إعلامية كشفت أن التغطية وُجهت بوضوح نحو التركيز على الجانب الإنساني، بناءً على تعليمات مباشرة من الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية – الكيان الإعلامي المسيطر عليه من قبل المخابرات العامة المصرية. الهدف؟ امتصاص الغضب الشعبي، وتوجيه الحزن نحو رثاء شخصي وعاطفي لا يطرح أسئلة مزعجة، ولا يقترب من "الخطوط الحمراء".
الضحايا تحوّلن في التغطية إلى "بناتنا الطيبين"، بدلاً من أن يكنّ دليلاً على فشل ممنهج في البنية التحتية والإدارة والمحاسبة.
هل كامل الوزير فوق المساءلة؟ ولماذا؟
ثمة رواية متداولة سربها بعض النافذين، أن كامل الوزير لم يكن راغبًا في تولي الوزارة أصلًا، لسببين رئيسيين: أولًا، أن "الغنائم" في الهيئة الهندسية أكبر وأقل مساءلة، وثانيًا أن وزارة النقل تُعد "صندوق مصائب مفتوح" يتعامل مع أرواح ملايين المصريين. ولم يوافق إلا بعد أن تلقى وعودًا شخصية من الرئيس عبد الفتاح السيسي بضمان الحماية التامة، وعدم التعرض له أو لمكانته، مهما تراكمت الكوارث.
إذا صحّت هذه الرواية، فإننا أمام وزير فوق النقد، ومسؤول لا يُسأل، ونظام سياسي يرى في الحساب نوعًا من التهديد لا من الواجب. وهنا يبرز سؤال آخر: هل مصر تُدار بمنطق دولة مؤسسات، أم بمنطق "العصبة" التي تحمي رجالها، مهما فعلوا؟
لماذا نرى الغضب يوجه للأسفل دومًا؟
في الحوادث المتكررة لعاملات الزراعة، أو أطفال الورش والمزارع، نرى دوماً نمطًا ثابتًا: اتهام الضحية أو السائق أو الفقر. نادرًا ما تُوجه أصابع الاتهام لأعلى السلسلة: من وافق على هذا الطريق؟ من سكت عن إهمال صيانته؟ من ترك طفلات يعملن مقابل 130 جنيهًا في اليوم؟ من وافق على تسليم الطرق لقوات غير مدنية بلا رقابة حقيقية؟ ولماذا صمت المجتمع عن هذه المعادلة المميتة؟
من المفارقة أن كل المؤسسات كانت على علم بعيوب الطريق. سكان المنطقة اشتكوا مرارًا من الظلام، ومن التهالك، ومن الحفر. ورغم ذلك، لم يتحرك أحد. كل شيء كان معروفًا – لكن لا أحد تحمّل المسؤولية.
هذه ليست المرة الأولى التي تموت فيها فتيات أو أطفال على طرق الموت. سبقها غرق أطفال منشأة القناطر، ومأساة معدية أبو غالب، وحوادث البحيرة. في كل مرة، تكون الضحية فتيات وأطفال من الريف، من المهمشين. لا دوائر ضغط، ولا كاميرات، ولا وعود رئاسية.
في دولة تُدار بمنطق العلاقات العامة، لا العدالة، تصبح قيمة الإنسان رهينة لموقعه الطبقي. هل كانت الدولة لتصمت لو كانت الضحايا بنات "الكمبوندات"؟ هل كانت الكاميرات لتكتفي بالبكاء الصامت، لو أن فتيات الساحل الشمالي هنّ من قضين في الحادث؟
"قلوبنا مع الضحايا".. أم عقولنا ضدهم؟
حتى تصريحات حرم الرئيس، التي يفترض أن تعبّر عن الدولة في أشد لحظاتها حزنًا، جاءت مشبعة بروح التعزية لا المساءلة. وجهت السيدة انتصار السيسي "الهلال الأحمر" لتقديم الدعم النفسي لأهالي الضحايا. لكنها لم تطرح سؤالًا واحدًا عن الفساد، أو التقصير، أو القصور الهيكلي في منظومة النقل والعمل.
التضامن العاطفي لا يعوّض العدالة. والتكافل لا يبدد الألم حين تكون أسبابه سياسية واقتصادية وإنسانية مركبة.
ما هو الوضع الدستوري لحرم الرئيس؟
قبل اكثر من 30 عاما، طرح المفكر المصري الراحل الدكتور محمد حلمي مراد تساؤلا خطيرا حول الوضع الدستوري لحرم الرئيس، عندما بدأت جيهان السادات -حرم الرئيس الراحل أنور السادات- الإدلاء بتصريحات وكثفت ظهورها الإعلامي وحضورها السياسي، وهو ما كان من أسباب نقمة السادات على المفكر الراحل وحزب العمل الذي كان يشغل منصبا قياديا به.
الان، وبعد أكثر من 3 عقود، وبعد 14 عاما على ثورة 25 يناير، و12 عاما على "ثورة 30 يونيو"، لم يجرؤ أحد على طرح ذات التساؤل: ما هو الوضع الدستوري لحرم الرئيس السيدة انتصار السيسي لتقول إنها وجهت الهلال الأحمر لتقديم الدعم النفسي؟
إلى متى الصمت؟
الأسئلة كثيرة، لكن الخوف منها أكثر. من المسؤول؟ ولماذا لا يُسأل؟ من يحمي كامل الوزير؟ من يحمي من عيّنه؟ من يحاسب شركة تابعة للجيش تدير طريقًا يغيب عنه الحد الأدنى من شروط الأمان؟ من يقرّ بأن هذا النظام لا يجرؤ على محاسبة أحد من داخله؟
إنها أسئلة لا تُطرح في الإعلام الرسمي، لكنها تتردد همسًا في الشوارع، وتُكتب صراخًا على وسائل التواصل، وتعيش في قلوب ملايين الفقراء الذين يدركون أن العدالة ليست لهم، وأن طرقهم ليست آمنة، وأن موتهم لا يُحرّك شيئًا إلا إذا دخلت الكاميرا زاوية إنسانية تُنتج منها دموعًا، لا إصلاحًا.
مأساة الطريق الإقليمي ليست حادث سير. إنها حادث نظام.








