-
℃ 11 تركيا
-
12 يونيو 2025
زيارة الشرع إلى درعا: استعادة رمزية الثورة لتثبيت شرعية الداخل وكسب رهان الخارج
زيارة الشرع إلى درعا: استعادة رمزية الثورة لتثبيت شرعية الداخل وكسب رهان الخارج
-
7 يونيو 2025, 10:23:29 ص
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
الرئيس السوري أحمد الشرع في درعا
متابعة: عمرو المصري
زار الرئيس السوري أحمد الشرع، يوم الجمعة 6 يونيو 2025، مدينة درعا الواقعة جنوب البلاد، في أول زيارة رئاسية لها منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011 ضد نظام بشار الأسد. وتُعد درعا مهد تلك الثورة التي انطلقت باحتجاجات واسعة عقب اعتقال فتية رسموا كتابات مناهضة للنظام على جدران المدارس، لتتحول لاحقًا إلى مركز للحراك الشعبي ثم العسكري ضد السلطة.
الشرع، الذي تولى السلطة في يناير 2025 عقب الإطاحة ببشار الأسد ضمن عملية انتقالية معقدة، زار المسجد العمري، المعلم الديني الذي ارتبط بانطلاق الثورة، ورافقه وزير الداخلية أنس خطاب. وشملت الزيارة لقاءات مع وفود عشائرية وعسكرية، وكذلك وفدًا من الطائفة المسيحية في المحافظة. وبثت وكالة الأنباء السورية الرسمية (سانا) مشاهد تظهر حشودًا تستقبل الشرع، وهو يحيي الناس ويصافحهم في جو وصف بالودي والاحتفائي.
وقال محافظ درعا، أنور الزعبي، إن الزيارة "شكّلت محطة هامة في مسار التعافي الوطني، ورسالة واضحة بأن درعا كانت وستبقى في قلب الوطن وموضع اهتمام القيادة"، وفق بيان رسمي نُشر عقب انتهاء الزيارة.
رمزية التوقيت والمكان
زيارة الشرع إلى درعا لا يمكن قراءتها خارج السياق الرمزي والتاريخي المرتبط بالمدينة، ولا بمعزل عن توقيتها الحساس. فدرعا لم تكن مجرد محافظة ثارت ضد الأسد، بل شكّلت نقطة التحول الأولى في الوعي السوري العام، حين تجرأ أبناء المدينة على كسر حاجز الخوف والتمرّد على السلطة الأمنية المركزية، ما أشعل شرارة انتشرت إلى كامل الجغرافيا السورية. لذلك، فإن أي زيارة رئاسية إلى هذه المدينة، خصوصًا إذا كانت أولى الزيارات منذ الثورة، تعني الكثير سياسيًا ونفسيًا وشعبيًا.
وقد اختار الشرع أن تتم الزيارة في أول أيام عيد الأضحى، وهو توقيت له رمزية خاصة في الثقافة العربية والإسلامية، حيث تُعزز في هذا اليوم صلات الرحم والاجتماع العائلي، وتُستحضر معاني الفداء والتضحية. هذه الرمزية لم تغب عن السياق المحلي؛ إذ رصد نشطاء على منصات التواصل كيف استثمر الشرع الطابع العائلي للعيد عبر ظهوره مع أخيه وزيارته لعمة له في درعا، مما عزز انطباعًا بأن الزيارة ليست فقط سياسية، بل ذات طابع وجداني وشخصي. الرسالة التي بدت مقصودة هي أن درعا ليست خصمًا، بل جزء من العائلة الوطنية السورية التي ينبغي إعادة لُحمتها بعد سنوات من الجفاء.
ترميم العلاقة مع "مهد الثورة"
الرسالة الأهم التي حملتها الزيارة كانت محاولة ترميم العلاقة بين الدولة ودرعا. فمنذ اتفاق 2018 الذي رعته روسيا وسمح ببقاء السلاح الخفيف بيد بعض الفصائل المحلية، ظلت العلاقة بين المدينة والسلطة متوترة وهشة. وعلى الرغم من انسحاب نظام الأسد آنذاك إلى الوراء، فإن درعا لم تُدمج سياسيًا ولا اقتصاديًا في مشروع الدولة كما كان مأمولًا. زيارة الشرع إلى المدينة تُعد إقرارًا ضمنيًا بهذا الفشل، ومحاولة لإعادة فتح صفحة جديدة، ولكن من موقع مختلف: موقع القيادة الجديدة، التي تريد القول إنها لا تكرر أخطاء النظام السابق، بل تسعى للمصالحة وإعادة بناء الثقة.
لقاء الشرع مع وجهاء العشائر والقيادات العسكرية والوفد المسيحي عكس هذا التوجه بوضوح. ففي درعا تتقاطع الهويات العشائرية والدينية والسياسية، وتمثل هذه المكونات مفاتيح لأي استقرار دائم. إدماج هذه الأطراف في الحوار السياسي والأمني يُعد ضرورة لضمان انخراط المدينة في أي مشروع وطني جديد، وهو ما يبدو أن الشرع قد وعاه جيدًا.
تعزيز الصورة الشعبية للرئيس
اللقطات التي بثتها "سانا" والتي أظهرت الشرع وسط الحشود وهو يبتسم ويصافح المواطنين، تحمل أبعادًا تتجاوز الصورة الإعلامية العادية. فالرئيس الذي جاء بعد فترة طويلة من الحكم الأمني السلطوي، يبدو أنه يسعى إلى تقديم نفسه كقائد شعبي، قريب من الناس، حاضر في تفاصيلهم اليومية، لا مجرد شخصية معزولة في القصر. هذه الصورة ليست مجرد مشهدية رمزية، بل جزء من استراتيجية أوسع تهدف إلى تعزيز شرعية الرئيس في الداخل، خصوصًا في المناطق التي كانت تاريخيًا في موقع المعارضة.
الشرع يدرك أنه لا يملك ترف تجاهل درعا، وأن أي مشروع سياسي في سوريا ما بعد الأسد لا يمكن أن يتجاهل "مهد الثورة"، لا جغرافيًا ولا رمزيًا. لذلك، فإن المصافحة هنا ليست مجرد لفتة، بل جزء من عملية إعادة بناء العقد الاجتماعي على أسس جديدة، تبدأ من الاعتراف بألم الماضي وتستكمل بخطوات عملية نحو الإنصاف والتكامل الوطني.
رسائل إلى الخارج
الزيارة لم تكن موجهة فقط إلى الداخل السوري، بل حملت أيضًا إشارات واضحة إلى الأطراف الإقليمية والدولية. فدرعا، بموقعها الجغرافي القريب من الحدود الأردنية والجولان المحتل، تشكّل نقطة ارتكاز أمنية وجيوسياسية مهمة. ورسالة الشرع هنا أن الحكومة الانتقالية الجديدة لا تسيطر فقط على العاصمة دمشق أو الشريط الساحلي، بل أيضًا على مناطق النفوذ التقليدية للمعارضة المسلحة. هذه السيطرة تعني في الوقت نفسه أن سوريا الجديدة قادرة على فرض الاستقرار، وهو ما تطالب به الدول المجاورة، خصوصًا الأردن.
كما أن توقيت الزيارة يأتي بعد سلسلة جولات دبلوماسية قام بها الشرع شملت السعودية وتركيا والكويت، وقد ناقش فيها ملفات إعادة الإعمار ورفع العقوبات والتطبيع مع الدول العربية. وكان من المهم، في هذا السياق، أن يُظهر الرئيس أن الأرض تحت سلطته وأن الحالة الشعبية مؤيدة له، لا سيما في المدن التي شكّلت التحدي الأكبر لنظام الأسد. الزيارة تُستخدم هنا كأداة تفاوض غير مباشرة، لتثبيت شرعية النظام الجديد في مواجهة تشكيك بعض الأطراف الخارجية.
بين الرمزية والرهانات
لكن رغم هذه الرسائل، لا يمكن تجاهل التحديات التي تفرضها الزيارة. درعا، كما يعلم الجميع، ليست مدينة "منضبطة" بالكامل، وقد شهدت خلال السنوات الماضية عمليات اغتيال وتوترات أمنية وتدخلات إسرائيلية محدودة، ما يجعل أي محاولة لاستثمار الرمزية محفوفة بالمخاطر. فالجمهور المحلي لن يرضى بالصور واللقاءات فقط، بل يتوقع تغييرات حقيقية في الأوضاع الاقتصادية والأمنية والخدمية. وإذا لم تُترجم الزيارة إلى سياسات ملموسة، فإن الزيارة قد تنقلب إلى عبء على صورة الشرع بدل أن تكون مكسبًا سياسيًا له.
زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى درعا في عيد الأضحى ليست مجرد محطة بروتوكولية، بل لحظة سياسية بامتياز تحمل دلالات مزدوجة: داخلية ترتبط بإعادة الاعتبار لمهد الثورة، وخارجية تؤكد سيطرة الدولة واستعدادها لإدارة البلاد بمقاربة مختلفة عن النظام السابق. لقد حاول الشرع أن يُظهر وجهًا جديدًا للقيادة السورية، وجهًا أقرب إلى الناس، واعٍ للرموز، ومدرك لحساسية اللحظة. لكن الطريق إلى ترميم الثقة طويل، ولن تكفي المصافحات في المسجد العمري وحدها لترميم الجراح. وحدها الأفعال والالتزامات الواضحة ستقرر إن كانت درعا ستظل رمز الثورة... أم تُصبح شاهدًا على بداية تحول وطني حقيقي.









