-
℃ 11 تركيا
-
14 سبتمبر 2025
د.محمد الصاوي يكتب: خطة ترامب لغزة.. بلير ينضم إلى الغربان التي تقتات على محرقة فلسطينية
د.محمد الصاوي يكتب: خطة ترامب لغزة.. بلير ينضم إلى الغربان التي تقتات على محرقة فلسطينية
-
12 سبتمبر 2025, 12:53:13 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
مرّ ما يقرب من 18 عامًا منذ أن قدّم توني بلير، حين كان مبعوثًا للشرق الأوسط، وثيقة من 34 صفحة رسمت معالم ما سمّاه «ممر للسلام والازدهار»، يمتد من البحر الأحمر حتى الجولان المحتل.
كانت خطة بلير تتصور إقامة حديقة زراعية-صناعية قرب أريحا في الضفة الغربية المحتلة لتسهيل نقل البضائع إلى الخليج عبر الأردن. كما نصّت على إنشاء حديقة صناعية أخرى أو «مشروع سريع الأثر» في ترقوميا بالخليل، وثالثة في الجلمة شمال جنين.
ولم يكن في ذلك جديد يُذكر؛ إذ إن اتفاقيات أوسلو الموقعة عامي 1993 و1995 نصّت على إقامة ما يصل إلى تسع مناطق صناعية على طول الخط الأخضر من جنين شمالًا حتى رفح جنوبًا.
لكن بلير، المفعم بالتفاؤل والمدعوم من السلطة الفلسطينية والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي ووكالة USAID واليابان، أعلن – كما لو كان صاحب رؤية عظيمة – قائلًا:
«إذا نجح هذا الحزمة، فسوف تتبعها حزم أخرى مماثلة. وبهذه الطريقة، على المدى البعيد وبالتدريج، يمكن تخفيف وطأة الاحتلال، ولكن بطريقة لا تعرض أمن إسرائيل للخطر».
وأضاف: «إن اعتقادي الراسخ أن هذه الخطوات ستسهم أيضًا في تسهيل المفاوضات الجارية بين الطرفين، بهدف تحقيق اتفاق سلام دائم وقابل للحياة بين دولتين تعيشان جنبًا إلى جنب في سلام وازدهار».
اليوم، لم يتبقَّ شيء تقريبًا من الحديقة الصناعية التي وعد بها بلير عند معبر الجلمة مع إسرائيل. لسنوات، ظل الموقع المسيّج خاليًا، حتى حاولت السلطة الفلسطينية – بدعم من مستثمرين أتراك – إقامة «مدينة صناعية» في جنين. وما يوجد الآن لا يتعدى بعض الطرق وعددًا قليلًا من المخازن.
في عام 2008، نسب بلير إلى نفسه الفضل في تقليص عدد الحواجز في الضفة الغربية المحتلة، والتي كانت تُقدَّر آنذاك بـ600 حاجز. أما اليوم، فقد ارتفع العدد إلى 898 نقطة تفتيش عسكرية، بما في ذلك عشرات البوابات التي تعزل المدن والقرى الفلسطينية معظم ساعات اليوم، ما يخنق الحياة الاقتصادية تمامًا.
تجوب ميليشيات المستوطنين الأرض، وتروّع المدن الفلسطينية، وتطرد الفلسطينيين من مساحات شاسعة تُستولى عليها باسم «مزارع رعاة» غير قانونية، بالتنسيق مع وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش الذي بات يسيطر على الإدارة المدنية في الضفة الغربية المحتلة.
مقدمة للضم
كل ذلك يُنظر إليه كمقدمة للإعلان المنتظر عن ضم إسرائيل للمنطقة «ج»، التي تشكّل نحو ثلثي الضفة الغربية.
أكثر من 40 ألف فلسطيني أصبحوا بلا مأوى جراء تدمير مخيمات اللاجئين في جنين وطولكرم ونور شمس، في عملية عسكرية إسرائيلية أُطلق عليها اسم «الجدار الحديدي»، والتي دخلت شهرها الثامن.
وفي عام 2009، تلقى بلير جائزة قدرها مليون دولار عن خطته الميتة: جائزة لـ«القيادة»، ذهب معظمها إلى مؤسسته الخاصة بـ«الفهم الديني».
اليوم، وبعد 23 شهرًا من الإبادة والتدمير في غزة، يعود بلير إلى الساحة، ليعيد تسويق نفسه بعد قرابة عقدين كخبير متمرّس في شؤون الشرق الأوسط.
وتفيد تقارير بأنه كان يقدم المشورة للبيت الأبيض ويتحدث مع جاريد كوشنر، صهر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بشأن الخطة الأمريكية الأخيرة لغزة.
وتتضمن هذه الخطة – أو نسخة منها – عرضًا في 38 شريحة، يوضح رؤية لما بعد الحرب في غزة.
مختبر للموت
أول ما يُلاحَظ في هذه الشرائح هو قسوتها. فهي خالية من أي إقرار بغزة كوطن فلسطيني.
منذ أكتوبر 2023، تحولت غزة إلى مختبر موت في القرن الحادي والعشرين: درس مرعب في كيفية إعادة كتابة قوانين الحرب؛ وكيفية استخدام الطائرات المسيّرة والروبوتات لتعظيم الخسائر البشرية؛ وكيفية تسخير الذكاء الاصطناعي لتحديد الأهداف؛ وكيفية استخدام التجويع ونقاط توزيع المساعدات لكسر إرادة الناس؛ وكيفية تفكيك أنظمة الصحة والتعليم؛ وكيفية تحويل أمة بأكملها إلى مشرّدة.
كان جوزيف منغيلي، الطبيب النازي الذي أجرى تجارب قاتلة على سجناء أوشفيتز، ليتعرف على كثير من هذه «المعايير» باعتبارها إنجازات.
والآن، يستعد العالم لتجربة بشرية أخرى على الفلسطينيين في غزة، تركز على بناء مشاريع «عملاقة» بقيمة 324 مليار دولار على قبورهم.
أباطرة غزة
أول ما يلفت النظر في هذه الخطة هو وحشيتها. فهي خالية تمامًا من الاعتراف بغزة كوطن للفلسطينيين. لقد تراجع واضعوها إلى معايير روسيا القيصرية، كما حدث بعد أيام من تتويج القيصر نيقولا الثاني.
حينها، اجتمع نصف مليون روسي في خوجينكا للحصول على طعام وهدايا مجانية من الإمبراطور. وعندما انتشرت شائعات عن نفاد البيرة والمعجنات، اندفع الناس في تدافع أدى إلى مقتل أكثر من 1200 وإصابة ما يصل إلى 20 ألفًا. ومع ذلك، مضى القيصر وزوجته في الاحتفال، بينما أُزيلت الجثث من المكان.
وهذا شبيه بكيفية تعامل «أباطرة اليوم» مع شعب غزة الجائع والمحتضر، غير أن حجم المأساة اليوم يجعل لا مبالاة نيقولا الثاني تبدو متحفظة.
ترامب ينوي بناء «جنة على الطراز الدبي» على القبور الطازجة لـ63 ألف قتيل (والعدد في ازدياد). هذه الوحشية لا تتوقف عند الأموات، بل تمتد إلى الأحياء: فـ«الفردوس» الذي سيحوّل غزة من «وكيل إيراني مدمَّر» إلى «حليف مزدهر ضمن اتفاقات أبراهام» لن يكون خاليًا من حماس فحسب، بل من معظم الفلسطينيين أيضًا.
خطة إفراغ غزة
في الحقيقة، كلما غادر فلسطينيون أكثر، أصبح المشروع أرخص. فلكل فلسطيني يغادر، يُقدَّر التوفير بـ23 ألف دولار. ولكل 1% من السكان يُهجَّر، هناك 500 مليون دولار من التوفير.
ولتسهيل مغادرة الفلسطينيين، تقترح الخطة منح كل شخص 5 آلاف دولار، ودفع إيجاره في دولة أخرى لأربع سنوات، وتوفير غذائه لعام واحد.
ويُعتقد أن واضعي الخطة إسرائيليون. فالمشروع قاده مايكل آيزنبرغ، رجل أعمال إسرائيلي-أمريكي، وليران تانكمان، رائد أعمال تكنولوجي وضابط سابق في الاستخبارات العسكرية.
أُعدّت المسودة الأولى لخطة إعادة إعمار غزة في أبريل الماضي وقدمت لإدارة ترامب. وليس معروفًا إن كانت نوقشت خلال اجتماع كوشنر مع بلير، لكن الاتجاه واضح.
محكوم عليها بالفشل
كان على بلير أن يدرك أن أي خطة تقوم على جعل غزة «خالية من حماس» مصيرها الفشل. كان ينبغي أن يتذكر تجربته كرئيس وزراء مع الجيش الجمهوري الأيرلندي.
تخيّل لو جاءه أحد ليقترح «نزع الصفة الجمهورية» عن أحياء بأكملها في بلفاست كشرط للسلام!
لكن المسار الذي اتخذته بريطانيا مع أيرلندا كان معاكسًا لذلك: الاعتراف بدور دبلن، ثم الحوار المباشر مع الجيش الجمهوري الأيرلندي، وصولًا إلى اتفاق الجمعة العظيمة، حيث أصبح الأعداء السابقون شركاء في السلطة.
إذا طُبّقت الصيغة الأيرلندية على غزة، فستكون البداية محادثات مباشرة مع حماس لإطلاق سراح الأسرى والمخطوفين، يليها تشكيل حكومة تكنوقراط، وإنهاء الحصار، وعودة وكالات الأمم المتحدة، وتدفق الأموال ومواد البناء. وعلى المدى البعيد، قد تعرض حماس «هدنة» طويلة الأمد.
لكن ما يحدث الآن هو العكس تمامًا، لأن كل التفكير في فلسطين يُنظر إليه من خلال عدسة «حماية إسرائيل وتسليحها».
استبعاد حماس
لم يكن السلام في أيرلندا ممكنًا دون مشاركة دبلن وواشنطن. أما اليوم، فالولايات المتحدة هي الداعم الأكبر لـ«إسرائيل الكبرى»، وأكبر عقبة أمام سلام مستدام.
تم استبعاد حماس من العملية السياسية منذ أن فازت بآخر انتخابات حرة في فلسطين عام 2006. ولعب بلير دورًا في ذلك، بمساعدة السلطة الفلسطينية وزعماء الحكومات العربية.
قبل عشر سنوات، كشفتُ أن بلير التقى خالد مشعل مرتين في الدوحة حين كان مبعوثًا، واستمرت اللقاءات بعد ذلك. حاول بلير – بمرافقة MI6 – الحصول على الفضل في وثيقة تأسيسية جديدة لحماس تعترف بحدود 1967، لكنه قوبل بالرفض.
لكن مجرد تلك اللقاءات كان اعترافًا بفشل محاولة استبعاد حماس.
على مدى 23 شهرًا، حاولت إسرائيل فرض ما لم تستطع 17 سنة من الحصار والقصف تحقيقه: القضاء على حماس.
أما بلير اليوم، فقد أصبح رجلًا ثريًا، مسمّر البشرة، يتنقّل بين مليارديرات مثل كوشنر. مليون دولار لم يعد يعني له شيئًا. إخفاقاته المتكررة في الشرق الأوسط كانت تجارة مربحة جعلت خطط بوريس جونسون للثراء بعد المنصب تبدو متواضعة.
أخيراً وليس آخراً
أي مكان سيكون في «ريفييرا غزة» التي يحلم بها ترامب لنصب يخلّد أكثر من 63 ألف فلسطيني قُتلوا و160 ألف جُرحوا في إبادة إسرائيلية؟
وأي اسم سيُعطى لذلك؟ نصب تذكاري لـ«المحرقة الفلسطينية» التي خلقتها حكومة نتنياهو؟
لكن لا شك: أي خطة تُفرض فوق رؤوس الفلسطينيين، من دون إرادتهم، سيكون مصيرها الفشل، تمامًا كغيرها من المشاريع الميتة.
غزة لا يمكن «تطهيرها» من حماس، تمامًا كما لا يمكن تطهير إنجلترا من الإنجليز أو فرنسا من الفرنسيين.









