تأثير التمركز حول الذات على القرارات والمؤسسات

د. سيف الدين زمان الدراجي يكتب: النرجسية الاستراتيجية وقيادة الدولة

profile
د. سيف الدين زمان الدراجي دبلوماسي وباحث في شؤون السياسة الخارجية والأمن الدولي
  • clock 13 سبتمبر 2025, 3:32:21 م
  • eye 434
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01
النرجسية الاستراتيجية وقيادة الدولة

تضطلع الدول المتقدمة بمهام ادارة شؤونها ومتابعة سلوك قادتها ضمن اروقة مراكز الفكر، ليتسنى لها موائمة استراتيجياتها وسياساتها ضمن نطاق توجهاتها في تعزيز الامن والاستقرار والرفاهية لشعوبها. 

واحدة من تلك القضايا التي تستحوذ على مساحة مهمة من البحث والدراسة المعمقة هي مفهوم "النرجسية الاستراتيجية في القيادة وصنع السياسات". حيث يفتَرِض صانع القرار أن العالم يدور حول خياراته، فيبالغ في تقدير تأثيره وقدراته، ويقلل من شأن إرادة الآخرين ومصالحهم وإمكاناتهم، سواء كانوا خصوماً أم حلفاء. هذا الاعتلال، الذي استخدمه هربرت ريموند ماكماستر مستشار الامن القومي السابق للرئيس الامريكي دونالد ترامب في كتابه ارض المعركة " "Battleground، ينتج أهدافاً تمنّياتية غير واقعية، وأطراً زمنية قصيرة، وأدوات تخطيط لا تلائم البنى السياسية أو الأمنية أو الثقافية أو الاجتماعية أو الاقتصادية. 


النرجسية، في معناها العام، سمة نفسية تتمحور حول الذات وتتغذّى على الحاجة إلى الإعجاب وقد تبلغ حدّ الاضطراب السريري الذي يؤثر في العلاقات اليومية وسلوك الفرد. أمّا النرجسية الاستراتيجية فليست تشخيصاً لشخصية بقدر ما هي انحياز منهجي في التفكير وصوغ السياسات.


تتجلى النرجسية الاستراتيجية في مجموعة سمات متداخلة. فالتمركز حول الذات يدفع صاحب القرار إلى تفسير النتائج بما " نعتقد نحن"، وإهمال ما يسعى إليه الآخرون على نحو مستقل. وتتضخم الأهداف من دون وسائل كافية أو صبر سياسي، فتتقدّم الغاية على حساب البناء المؤسسي. وتظهر توجهات استخبارية مضلِّلة حين نفترض أن الخصوم سيستجيبون لما يواجههم كما نفعل نحن، لا كما يمليه تاريخهم وثقافتهم وحساباتهم الداخلية. وفوق ذلك كله، يُخضِع صانع السياسات أفقَ الصراع لتوجهات انتخابية أو بيروقراطية مقيتة، فتطغى الأجندة الداخلية على مسار المشكلة الواقعي. و في ذات السياق ممكن أن تتمظهر ذات الديناميكية وطريقة التفكير داخل المؤسسات الكبرى، حين تحلّ المبادرات العشوائية وردود الافعال مكان الاستراتيجية، ويتحوّل الإنجاز إلى مرآة لرضا " الأنا" أكثر مما هو ترجمة لهدف أسمى لتحقيق الاستدامة.

وهنا يأتي دور الفريق الاحمر او فريق محامي الشيطان الذي يأخذ على عاتقه ايجاد مواطن الخلل في توجهات الدولة وسياساتها واستراتيجياتها وقراراتها. وقد يكمن الحل ايضا ضمن إطار الحوكمة بالتعاطف الاستراتيجي. إذ على صناع القرار البدأ بفهم ما يريده الآخرون وما يخافونه، عليهم ان يربطوا الأهداف بالوسائل والموارد بعد اختبار المخاطر والتهديدات، ضبط قراءة الواقع بما يتناسب وتحدياته لا مع السياسات الداخلية، أو الشعبوية في اتخاذ القرارات، ومن ثم قياس نسبة التغيير الحقيقي على الأرض.


توضح أمثلة العقدين الماضيين كلفة هذه السمات. ففي العراق وأفغانستان بعد 2003، رُسمت نهايات كبرى قائمة على تحول سريع للدولة والمجتمع، مع انتباهٍ غير كافٍ لبعض المشاكل البنيوية، ودور الفواعل المحلية، وتدخّل دول الجوار، ومرونة الخصوم. حيث اتسعت الفجوة بين الطموح والوسيلة، فانتشرت البرامج والعمليات والتدريب والضخ المالي بلا بناء مؤسّسي للشرعية يضمن تحقيق الأمن والعدالة. لذلك كان ما يتحقق من مكاسب يتبدد بسرعة عند أول ضغط سياسي أو أمني، لأن آليات التغيير لم تنفذ بالشكل المناسب. 


السؤال هنا: لماذا تنزلق الاستراتيجيات نحو هذا المسار؟


الجواب: لأن القيام بالنشاط أسهل من بناء الاستراتيجية. فإطلاق مبادرة أو توقيع مذكرة أو عقد قمة أو فرض عقوبات يعطي شعوراً سريعاً بالنصر، ويُرضي الجمهور الداخلي. بينما صياغة العمل على استراتيجية متماسكة، يتطلّب الاعتراف بالقيود والمحددات، والعمل التراكمي، والسماح للوقائع بأن تُصحّح الفرضيات. فالسياسة تكافئ الاستعراض وتعاقب الصبر، حيث يعلو التكتيك على الاستراتيجية، وردود الفعل على التخطيط والتروي.


على القائد أن لا يتنازل عن الطموح بل يعيد تصميمه. يحرص على أن تصعد الغايات النهائية عبر أهداف وسيطة قابلة للقياس، وأن تتوافق الوسائل مع الموارد، وأن يتسق الأفق الزمني مع طبيعة المشكلة. يطرح مقترحاته و رؤيته بشكل مدروس، قابل للدحض والمناقشة، ويفتح باب الاعتراض البنّاء، ويطلب من فريقه أن ينتقد الخطة قبل إطلاقها، ويقاوم إغراءات السلطة التي لا تغيّر شيئاً. وهو أيضاً يضبط إيقاع القرار مع إيقاع الصراع، لا مع عناوين المساء، بحيث لا تجرفه موجة الحضور الإعلامي بعيداً عن تراكم الأثر الحقيقي.


في الخلاصة، النرجسية الاستراتيجية ليست شراً مطلقاً ولا فضيلةً خالصة. إنها ميلّ بشري يتضخم تحت ضغط السلطة وبهرجها. وقد يحرّك الابتكار والجرأة حين يُكبح، لكنه قد يجرّ إلى قصر النظر والهشاشة والانجراف الأخلاقي حين يتسيّد. ما يحول دون الانزلاق هو التعاطف الاستراتيجي بمعناه العملي: بدء التحليل من منظور الآخر، وربط الغايات بالوسائل والموارد على أساس فرضيات معلنة وخطط قابلة للتعديل، وقياس ما يغيّر لا ما يُرضي. وافساح المجال لطروحات الفريق الاحمر او محامي الشيطان بحرية دون توجس او خوف. عند هذه العتبة يصبح الطموح الكبير قابلاً للتحقق، وتستعيد القيادة - في الدولة والمؤسسة - توازنها بين الثقة والموضوعية، فتمنح المشروع قدرة على الاستمرار وتمنح المجتمع حصانةً من فخاخ " الأنا" التي تلمع سريعاً وتخفت أسرع.


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
التعليقات (0)