د. محمد الصاوي يكتب: إعدام السلام: الرصاص يسبق الحوار

profile
د. محمد الصاوي باحث في العلاقات الدولية
  • clock 10 سبتمبر 2025, 1:06:29 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

ما جرى في الدوحة لم يكن مجرد عملية خاطفة ضد قيادات حماس. لقد كان إعلاناً واضحاً: لا حصانة في أي عاصمة، ولا مكان للمفاوضين، ولا قيمة للوسطاء. والأخطر أن واشنطن بقيادة دونالد ترامب تبدو شريكاً كاملاً في هذا النهج، كما لو أن “السلام الأميركي” صار يُدار بالصواريخ لا بالكلمات.

إسرائيل: تاريخ طويل من قتل المفاوضين

تل أبيب لم تخترع شيئاً جديداً. منذ نشأتها، اعتمدت على منطق القوة العارية: اغتيال كل من يملك نفوذاً سياسياً أو إمكانية لإحداث اختراق تفاوضي.

تاريخ إسرائيل في اغتيال المفاوضين: الرصاص يسبق الحوار

محاولة اغتيال وفد حماس في قطر لم تكن الأولى في نهج إسرائيل. على مدار عقود، تكررت حوادث اغتيال المفاوضين، وغالباً في ذروة محاولات التفاوض لتعطيل أي تقدم سياسي. أبرز الحالات:
- لورد موين 1944: وزير الدولة البريطانية في الشرق الأوسط، عارض الهجرة اليهودية إلى فلسطين وسعى لحلول تفاوضية مع العرب. اغتالته منظمة “ليحي” الصهيونية في القاهرة لأنه اعتُبر عقبة أمام المشروع الصهيوني.
- فولك برنادوت 1948: الكونت السويدي وأول مبعوث أممي للتفاوض بعد حرب 1948، اغتيل في 17 سبتمبر 1948 على يد متطرفين يهود من منظمة “ليحي” (شتيرن)، لأنه اقترح وضع القدس بأكملها تحت السيادة العربية.
- صلاح خلف (أبو إياد) 1991: قبل أشهر من مؤتمر مدريد للسلام، اغتيل الرجل الثاني في فتح مع رفاقه في تونس في 14 يناير 1991، ما أحدث فراغاً قيادياً وأضعف جناح فتح القوي الذي كان يمكن أن يفرض شروطاً أكثر صرامة في المفاوضات التي مهدت لاتفاق أوسلو.
- أحمد الجعبري 2012: بعد ساعات من استلامه مسودة اتفاق هدنة دائمة، اغتيل نائب القائد العام لكتائب القسام في حي الشجاعية، وكان الجعبري المفاوض الفلسطيني ضمن وساطة عربية للوصول إلى تهدئة في غزة بعد تصعيد عسكري.
- صالح العاروري 2024: نائب رئيس المكتب السياسي لحماس والمسؤول عن ملف الأسرى والمفاوضات غير المباشرة، اغتيل في بيروت، ما أثار جدلاً واسعاً لأنه كان قناة تفاوضية مهمة مع الوسطاء الدوليين.
- وفد الدوحة بقيادة خليل الحية 2025: أعلنت إسرائيل استهداف اجتماع للقيادة السياسية لحركة حماس في الدوحة، الذي كان يناقش مقترحاً أمريكياً لهدنة إنسانية طويلة في غزة. نجت قيادة الوفد، لكن الغارة أثارت غضباً دولياً، واعتبرتها قطر انتهاكاً صارخاً لسيادتها والقانون الدولي.

هذه الأمثلة تؤكد أن اغتيال المفاوضين أصبح جزءاً متكرراً من العقيدة الإسرائيلية، سواء تجاه الفلسطينيين أو الوسطاء الدوليين، وغالباً ما يأتي في لحظة حرجة لإجهاض أي مسار سياسي محتمل.

أميركا: شريك في القتل، لا في السلام

واشنطن لطالما غلّفت سياسة القتل المستهدف بلغة “مكافحة الإرهاب”، لكن الواقع مختلف: كثير ممن استُهدفوا كانوا مشاركين في مسارات تفاوضية سرية.
أفغانستان: اغتيال قيادات طالبان أثناء حوارات أولية. العراق: استهداف شخصيات حاولت الجمع بين المقاومة والسياسة.
2020: اغتيال الجنرال الإيراني قاسم سليماني، رغم كونه قناة اتصال غير معلنة بين طهران وواشنطن.

اليوم، إدارة ترامب (2025) تعيد إنتاج ذات المعادلة: من يفتح باب التفاوض يُقصى جسدياً، بينما البيت الأبيض يكتفي بالتصريحات الرمزية. العملية في الدوحة جرت على بُعد كيلومترات من أكبر قاعدة أميركية في المنطقة، والواشنطنية اكتفت بتمثيلية “الإخطار المتأخر”.

فلسفة ترامب: الصفقة الكبرى بالاغتيالات

ترامب لم يخف يوماً احتقاره للدبلوماسية التقليدية. في حملته الثانية، تحدث صراحة عن “السلام بالقوة”، وعن أن الاغتيالات “تُسرّع الحلول”. اليوم، صار هذا الخطاب سياسة رسمية: من لا يقبل شروط الصفقة الأميركية–الإسرائيلية يُقصى جسدياً.

أثر هذه العقيدة: سلام مستحيل


الفلسطينيون يفقدون الثقة بأي مسار سياسي ؛ الوسطاء الإقليميون (قطر، تركيا، مصر) يدركون أنهم معرضون للاستهداف، كما في الدوحة ؛ الداخل الإسرائيلي تحت سيطرة اليمين المتطرف الذي يرى في قتل أي زعيم يسعى للسلام خطوة مشروعة.

النتيجة: المفاوضات مجرد واجهة، بينما الدم يصبح لغة الصراع الأساسية.

أخيراً وليس آخراً

الاغتيال بديلاً للتفاوض

من اغتيال برنادوت إلى وفد الدوحة 2025، الخط متصل: لا تفاوض إلا على جثة المفاوض.
ترامب اليوم ليس استثناءً؛ هو يضع ختم الشرعية الأميركية على عقيدة إسرائيلية قديمة.
حين يتحدث البيت الأبيض عن “حلول سياسية”، علينا أن نتذكر: وراء الستار، هناك صواريخ تُطلق لتُسكت كل صوت تفاوضي. الحقيقة المُرّة: إسرائيل تقتل المفاوضين، وأميركا تُغطي الجريمة… بل وتشارك فيها.


 

 


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
التعليقات (0)