-
℃ 11 تركيا
-
27 أغسطس 2025
د. أميرة فؤاد النحال تكتب: تواطؤ غربي: إخفاء هوية الشهداء
تبرئة الإعلام الغربي من دم الصحفي الفلسطيني
د. أميرة فؤاد النحال تكتب: تواطؤ غربي: إخفاء هوية الشهداء
-
27 أغسطس 2025, 11:41:10 ص
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
لم يعد اغتيال الصحفي الفلسطيني في غزة مقتصراً على صاروخ الاحتلال، بل امتدّ إلى عملية اغتيال ثانية تنفذها كبريات المؤسسات الإعلامية الغربية عبر سياسة التبرؤ الممنهج، فاليوم، حين ارتقى حسام المصري –مصور وكالة رويترز– ومريم أبو دقة –التي عملت مع الـ"AP" و"إندبندنت"– إلى جانب زملاء آخرين، تعمّدت الرواية الخبرية الرائجة محو هوية مؤسساتهم والاكتفاء بتعريفهم كصحفيين محليين، هذا المحو المتعمد ليس زلة مهنية، بل هو شكل من أشكال التواطؤ الناعم الذي يعفي الإعلام الغربي من مواجهة جريمة قتل موظفيه، ويحوّل دمهم إلى عبء فردي لا إلى مسؤولية مؤسسية.
إن ما يجري هو انتقاء للدماء في الخطاب الإعلامي: يُضخَّم استهداف مراسل قناة عربية بعينها ليُبنى عليه عنوان الصدمة، بينما تُدفن دماء العاملين مع "رويترز" و"NBC" والـ"AP" تحت صمت بارد، هذه ليست مجرد صياغة خبرية، بل هندسة سياسية للوعي، وجاءت الأخبار في صياغة مبتورة: أسماء بلا لافتات، دماء بلا هوية مهنية، تُنتج صورة مريحة للغرب: "إسرائيل" هي القاتل، لكن الإعلام الغربي بريء من دم موظفيه.
لا تُكتب الأخبار في فراغ، بل تُهندس بعناية وفق ميزان سياسي بارد، ففي كل مرة يُستشهد فيها صحفي فلسطيني، تُستحضر هوية المؤسسة الإعلامية إذا كان يعمل مع وسيلة عربية كـ"الجزيرة"، بينما يُمحى هذا التفصيل حين يتعلق الأمر بوكالات غربية كـ"رويترز" أو "NBC" أو "أسوشيتد برس AP"، وهكذا يولد ما يمكن تسميته انتقاء الدماء، حيث يُعطى دمٌ واحد بطاقة تعريف واضحة، فيما تُترك دماء أخرى بلا لافتة.
هذا الفرز الإعلامي ليس بريئاً؛ إنه أداة لتجنيب المؤسسات الغربية مواجهة الحقيقة المرة: أن "إسرائيل" تقتل موظفيها بشكل مباشر، فالمشهد يوحي بأن المستهدف حصرياً هو مصور الجزيرة، بينما تتحول بقية الشهادات إلى مجرد أرقام في الهامش، هنا يُمارَس المحو الانتقائي، ويُجزَّأ معنى الشهادة، فيصبح الصحفي العربي ضحية بارزة، بينما زملاؤه المرتبطون بوكالات غربية يُدفنون مرتين: مرة تحت الركام، ومرة تحت الصمت المتواطئ.
حين يرتقي صحفي فلسطيني يعمل مع وكالة غربية، فإن أول ما تفعله المؤسسة المشغِّلة له ليس إعلان الغضب أو تحميل الاحتلال المسؤولية، بل التنصل الممنهج من دمه، رويترز –على سبيل المثال– لم تكتفِ سابقاً بالانحياز للرواية الصهيونية في جرائم قتل صحفييها، بل صاغت بياناتها بلغة باهتة تتجنب الاعتراف بكون ما جرى عملية اغتيال متعمدة، واليوم، يتكرر المشهد مع حسام المصري، الذي يُمحى اسمه من لافتة رويترز كأنه لم يكن جزءً من منظومتها.
الأمر ذاته ينطبق على مريم أبو دقة، التي عملت مع الـ"AP" و"إندبندنت"، ومعاذ أبو طه الذي كان يراسل "NBC" الأميركية، أسماء تُذكر كضحايا معزولين، لا كموظفين لمؤسسات كبرى تُفترض أن تدافع عنهم، إننا أمام إستراتيجية تبرئة متعمدة: إخفاء الانتماء المؤسسي للصحفي الشهيد يعني إعفاء المؤسسة من أي التزام أخلاقي أو سياسي تجاه دمه، وتحويل الجريمة من مسؤولية مشتركة إلى مأساة فردية بلا صاحب.
لم تعد الصياغة الإخبارية مجرّد نقل للوقائع، بل تحولت إلى أداة سياسية لهندسة الوعي، تُدار بدقة لتوجيه الانتباه وصناعة الانطباع، حين يتكرر في نشرات الأخبار ذكر عبارة "مصور الجزيرة استشهد"، بينما يُذكر بقية الصحفيين دون أي تعريف مؤسسي، تتشكل صورة ذهنية تقول: الاستهداف حصري لقناة عربية، فيما تبقى المؤسسات الغربية في مأمن أخلاقي، وهكذا تتشكل صورة ذهنية مضللة: الاستهداف يبدو جزئياً، محصوراً في مؤسسة عربية، لا شاملاً لمجمل المنظومة الصحفية في غزة.
إنه تواطؤ ناعم يتخفى خلف الكلمات، حيث يتحول الإغفال إلى سياسة، والاختصار إلى آلية للتبييض، وبهذا التلاعب اللفظي، لا يُمحى فقط اسم المؤسسة التي عمل معها الشهيد، بل يُعاد رسم حدود الجريمة بما يبرّئ المنظومة الغربية من شراكتها، إنها عملية تبييض إعلامي كاملة: دماء فلسطينية تُراق، تُنسب للعنف الصهيوني، بينما يُعفى الغرب من أي مسؤولية أخلاقية عن ضحاياه.
عندما تُمحى لافتة "رويترز" أو "NBC" أو "AP" من دماء موظفيها، تُحجَب مسؤولية هذه المؤسسات عن مواجهة جريمة قتل واضحة، ويُضعَف تلقائياً أي ضغط دولي على "إسرائيل"، لأن الضحايا يُقدَّمون كأفراد محليين لا كموظفين تابعين لمؤسسات عابرة للقارات.
بهذا الشكل، تُحافِظ وسائل الإعلام الغربية على العلاقة الوظيفية التي تربطها بصانع القرار في واشنطن ولندن: خطاب إعلامي مُحايد شكلاًا، لكنه منحاز سياسياً، يتيح استمرار التنسيق مع دوائر النفوذ من دون إرباك أو مساءلة، إنّ ما يحدث ليس مجرد صمت، بل تبرئة ذات ممنهجة، حيث يتحول محو الهوية إلى آلية لحماية المنظومة الغربية من أي التزام أخلاقي تجاه دم الصحافة الفلسطينية.
بهذا التواطؤ، يُعاد إنتاج معادلة قاتلة: الصحفي الفلسطيني يُستشهد، و"إسرائيل" تُدان شكلياً، لكن المؤسسة الغربية تخرج نظيفة من دم موظفيها.
إن تغييب المؤسسات الإعلامية الغربية لهوية شهداء غزة ليس تفصيلاً عابراً، بل هو جريمة ثانية توازي في خطورتها جريمة القصف الأولى، فالاحتلال يضغط الزناد، والإعلام الغربي يضغط الممحاة؛ الأول يقتل الجسد، والثاني يمحو الانتماء، ليُدفن الصحفي الفلسطيني مرتين: مرة تحت الركام، ومرة في صمت مؤسسي متواطئ.
إنّ فضح هذا التواطؤ البنيوي لم يعد ترفاً، بل ضرورة سياسية وأخلاقية، لأنه يكشف كيف تُدار ماكينة الإعلام الغربي كأداة لحماية المنظومة الصهيونية وتبرئة ذاتها من دم موظفيها، وإنّ السكوت عن هذا المحو ليس حياداً، بل انخراط مباشر في الجريمة.
والحقيقة التي يجب أن تُقال بلا مواربة: من يقتل الصحفي مرتين هو شريك مباشر في الجريمة.









