-
℃ 11 تركيا
-
17 أغسطس 2025
د. أميرة فؤاد النحال تكتب: "إسرائيل الكبرى".. من الأساطير التوراتية إلى خرائط الهيمنة على الجغرافيا العربية
د. أميرة فؤاد النحال تكتب: "إسرائيل الكبرى".. من الأساطير التوراتية إلى خرائط الهيمنة على الجغرافيا العربية
-
16 أغسطس 2025, 1:24:04 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
حين أعلن نتنياهو، بوجه بارد وعينين متقدتين بالهوس، أن حلمه الروحاني والتاريخي هو قيام "إسرائيل الكبرى"، لم يكن يرسم خريطة خيالية على ورق، بل كان يرفع الستار عن مشروع توسعي جارٍ تنفيذه خطوة بخطوة، ومن غزة التي اتُّهمت زوراً بعملية السابع من أكتوبر لتبرير إبادتها، إلى الضفة التي تُخنق بحجة منع "تكرار التجربة"، تتسع رقعة العدوان لتطال الأردن ومصر ولبنان وسوريا، وغداً من يظن نفسه آمناً سيفيق على علم الاحتلال فوق أرضه.
الخريطة التي يحملها نتنياهو ليست شعاراً انتخابياً، بل وثيقة استعمارية تحدد نسباً دقيقة لابتلاع فلسطين كاملة، والأردن كاملة، ولبنان كاملة، وأجزاء واسعة من سوريا والعراق والسعودية ومصر، وصولاً إلى الكويت، "إسرائيل" هذه الكتلة السرطانية لا تعرف حدوداً، وكل يوم تُمدد أذرعها في جسد المنطقة مستفيدة من تواطؤ البعض وصمت البقية، واليوم إذا تُركت غزة وحدها، فلن يجد أحد غداً من يتركه الاحتلال وشأنه.
لم تكن غزة في نظر المشروع الصهيوني، سوى الحلقة الأولى في سلسلة تمدّد مرسومة بدقة على الخرائط العسكرية والسياسية للاحتلال، اتُّهمت غزة وفق الرواية المعلّبة صهيونياً، بأنها بؤرة الإرهاب ومصدر التهديد الوجودي، لتبرير شنّ محرقة جماعية عقب السابع من أكتوبر، وهذه التهمة لم تكن سوى غطاء شرعي زائف لتمرير أكبر عملية تطهير جغرافي وديموغرافي في التاريخ المعاصر، تهدف إلى تفريغ الأرض وإعادة هندسة الوعي الفلسطيني والعربي على حد سواء.
لكن من يقرأ العقلية الاستعمارية الصهيونية يدرك أن الأمر لا يتوقف عند حدود القطاع، فبعد غزة انتقل الاحتلال إلى الضفة الغربية تحت شعار "منع تكرار التجربة"، وكأن المطلوب هو خنق أي جغرافيا يمكن أن تنبض بالمقاومة، إن هذا ليس تحركاً عشوائياً، بل استراتيجية التفكيك المرحلي، حيث تُستهدف كل ساحة على حدة، ويُعزل ميدان المقاومة عن الميادين الأخرى، في عملية استفراد ميداني ممنهجة، تُتيح للاحتلال ابتلاع الجغرافيا قطعة تلو أخرى، بينما تُنشغل الساحات الأخرى بمصائرها المؤقتة.
إن السردية الفلسطينية تُظهر أن ما يحدث ليس سلسلة من الأحداث المنفصلة، بل خريطة زحف متدرج تبدأ من الأطراف المحاصرة وصولاً إلى قلب الإقليم، وشعار "اليوم غزة.. وغداً أنتم" ليس شعاراً عاطفياً، بل معادلة سياسية تشرح كيف تُدار شهية الاحتلال: يبدأ من الخاص لينتهي بابتلاع العام، ويحوّل كل مساحة إلى ساحة اختبار لأسلوب القمع المقبل.
"إسرائيل الكبرى" ليست مجرّد شعار أيديولوجي، ولا حلماً لزعيم مأزوم يسعى لشدّ جمهوره، بل هي عقيدة تأسيسية ضُفرت خيوطها في النصوص التوراتية المؤدلجة، ثم أُعيد إنتاجها في العقل السياسي الصهيوني كمخطط جيوسياسي طويل المدى، وعبارة "من النيل إلى الفرات" التي يلوّح بها نتنياهو اليوم لم تهبط فجأة على الخطاب الصهيوني، بل هي جزء من لاهوت مُسَيّس، جرى تحويله إلى وثيقة تبرير استعمارية مدعومة بالقوة العسكرية، هي حدود أرض الميعاد كما صاغتها القراءة الصهيونية للنص التوراتي، لتتحول من وعد ديني غامض إلى خارطة سياسية مُلزمة في وعي المؤسسة الصهيونية.
هذه الأساطير، التي تلبس عباءة القداسة، جرى استثمارها سياسياً منذ نشأة الحركة الصهيونية، فـ "أرض الميعاد" تحولت إلى مبرر أزلي لابتلاع الأرض، و"شعب الله المختار" إلى ذريعة لشرعنة التمييز العرقي والإبادة، و"الحق التاريخي" إلى أساس للمطالبة بتفكيك حدود الدول العربية، وبهذا المعنى، النص التوراتي المؤدلج هو المخطط الأولي للخرائط العسكرية التي تُرسم اليوم.
تصريح نتنياهو الأخير ليس إلا حلقة في هذا الامتداد التاريخي؛ فحين يقول إنه يسعى لتحقيق "رؤية إسرائيل الكبرى" التي تضم فلسطين والأردن ولبنان وسوريا ومصر، فهو يترجم نصوص الأسطورة إلى برنامج جيوسياسي معاصر، إنه يربط بين اللاهوت المُسيّس وأدوات القوة الميدانية، ليجعل من المروية التوراتية خطة توسعية عملية تتجاوز الزمان والمكان، وخطورة هذا التحول تكمن في أن الاحتلال يستخدم هذه المجاهرة كأداة لاختبار صلابة الإقليم: كلما طال الصمت العربي والدولي، كلما اقتربت لحظة تصفير الحدود، وتحويل الخريطة العقائدية إلى واقع ميداني لا رجعة فيه.
الخرائط التي يرفعها نتنياهو اليوم ليست رسومات نظرية على ورق، بل خطط تقسيم ميدانية صيغت بعقلية استعمارية ترى الإقليم العربي كأرض مشاع قابلة لإعادة التوزيع، وفي تصوره لا وجود لدول ذات سيادة أو حدود محترمة؛ هناك فقط مساحات مُدرجة ضمن "الحق التاريخي" المزعوم، يجب أن تعود إلى حضن الكيان.
التفاصيل التي يعلنها ببرود تكشف حجم الشراهة التوسعية: 100% من فلسطين، 100% من الأردن، 100% من لبنان، 75% من سوريا، 45% من العراق، 40% من السعودية، 30% من مصر، وصولًا إلى الكويت، هذه ليست نسباً عابرة، بل قائمة جغرافية للغنائم، تُعامل فيها الأوطان كما تُعامل القطع العسكرية في لعبة احتلال ممنهجة، هذه الخرائط تعمل كسلاح نفسي لا يقل خطراً عن الدبابات والصواريخ؛ فهي تُشرعن العدوان قبل وقوعه، وتطبع فكرة ابتلاع الأرض في وعي جمهور الاحتلال، وتحولها إلى "حتمية تاريخية"، والأخطر أن تمريرها دون ردع فعلي يعني أن المشهد الذي رُسم اليوم بالألوان على الورق، سيُعاد رسمه غداً بالدم على الأرض.
"إسرائيل" في بنيتها ووظيفتها، ليست كياناً سياسياً طبيعياً، بل كتلة سرطانية استعمارية مزروعة في الجسد العربي، تتحرك وفق منطق المرض الخبيث: تبدأ ببؤرة صغيرة، ثم تتسع بلا توقف حتى تلتهم النسيج المحيط، ومنذ اللحظة الأولى لتأسيسها، لم تعترف بحدود ثابتة، بل اعتبرت كل ما يقع خارج سيطرتها "أرضًا قابلة للضم" حين تتاح الفرصة، وآلية تمددها تشبه ما يمكن وصفه بـ "الانتشار الممنهج"؛ فهي تخلق بؤراً للنزاع في الأطراف، تستنزفها حتى تنهار، ثم تتقدم نحو الداخل، وتبدأ العدوى بجغرافيا محاصرة مثل غزة، تنتقل إلى الضفة، ثم تُمدّ أذرعها إلى العواصم المجاورة، وكل ذلك يجري بينما تُشغل بقية الإقليم بخلافات جانبية أو رهانات دبلوماسية عقيمة، ما يمنح الاحتلال نافذة زمنية للتوسع الهادئ.
خطورة هذه الديناميكية أنها تراهن على تآكل المناعة السياسية للأمة؛ فكل جبهة تُكسر تُضعف الجبهة التالية، حتى يصبح ابتلاع الإقليم عملية طبيعية في مسار الكيان، وكما لا يمكن معالجة السرطان بالتجاهل، لا يمكن وقف "إسرائيل" بالرهان على الوقت أو المفاوضات، بل بكسر آلية الانتشار ذاتها قبل أن تبلغ الأعضاء الحيوية للجسد العربي.
منذ عقود يدير الاحتلال صراعه مع الأمة العربية وفق معادلة مريحة: هو الفاعل والمبادر، ونحن المتلقي والمنفعل، ومع كل جولة عدوان تُختزل ردود الأفعال العربية والإسلامية في بيانات إدانة باهتة أو مؤتمرات طارئة بلا أثر ميداني، بينما يمضي المشروع الصهيوني في إحكام قبضته على الأرض، وكسر هذه المعادلة يتطلب الانتقال من منطق الترقب إلى منطق المبادرة؛ فـ "إسرائيل" وهي تختبر حدود صبر الإقليم، تدرك أن غياب ردع عملي يمنحها الضوء الأخضر للمضي في مشروع تصفير الحدود، والرد الفعّال لا يبدأ من الجيوش النظامية فحسب، بل من تعبئة شاملة توظّف كل عناصر القوة المتاحة: المقاومة المسلحة، الحصار الاقتصادي المضاد، المواجهة القانونية الدولية، والتعبئة الإعلامية العابرة للحدود.
التجربة الفلسطينية رغم كلفتها الإنسانية الفادحة، أثبتت أن الكيان ليس عصياً على الارتباك والهزيمة حين يواجه إرادة صلبة واستنزافاً مستمراً، والمطلوب اليوم هو تعميم هذه المعادلة على مستوى الأمة، بحيث تتحول غزة من جبهة محاصرة إلى بوصلة مواجهة إقليمية، ويُترجم التضامن من شعارات موسمية إلى أفعال تردع التمدد قبل أن يصبح واقعاً ثابتاً.
ما يعلنه نتنياهو اليوم ليس توقعاً سياسياً ولا خطاباً تعبوياً لجمهوره، بل بيان حرب مفتوحة على الجغرافيا العربية برمّتها، وحدود "إسرائيل الكبرى" التي يخطط لها، تبدأ من فلسطين ولا تنتهي عند مصر أو العراق أو الخليج، بل تتمدد حيثما تسمح الجغرافيا والفراغ السياسي، والتجربة القاسية لغزة أثبتت أن الاحتلال حين يختبر الصمت الدولي والعربي، يتحول إلى مفترس بلا كوابح، واليوم الخرائط تُرسم بالألوان، وغداً ستُعاد رسمها بالدم، ومن يظن أن المسألة شأن فلسطيني داخلي، لم يفهم بعد طبيعة هذا المشروع: كل حدود عربية هي حدود مؤقتة في العقلية الصهيونية.
إن ترك غزة وحدها ليس مجرد خذلان أخلاقي، بل انتحار استراتيجي للإقليم، وكما يقول التحذير الذي يجب أن يُرفع في وجه كل عاصمة عربية: “اليوم غزة.. وغداً أنتم”، اللحظة الآن هي لحظة مواجهة، إما أن يُكسر المشروع في الميدان، أو يُكرّس كأمر واقع تصبح فيه الأمة كلها ساحة احتلال، الخريطة بيدهم.. والميدان بأيدينا، نعم الوقت ليس في صالحنا، لكنه ما زال بأيدينا.









