د. أميرة فؤاد النحال تكتب: لماذا أُسكت أنس الشريف الآن؟

profile
د. أميرة فؤاد النحال كاتبة وباحثة فلسطينية
  • clock 13 أغسطس 2025, 9:58:33 ص
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01
الشهيد أنس الشريف

اغتيال أبرز شهود الإبادة في غزة يثير أسئلة حول توقيت التصفية، وعلاقته بخطط الاحتلال العسكرية والسياسية للمدينة

في اللحظة التي كان العالم فيها بأمسّ الحاجة إلى عيون ترصد وتوثّق، أسكت صاروخ الاحتلال صوت أنس الشريف، الصحفي الذي تحوّل إلى شاهد حي على جرائم الإبادة، وتوقيت الاغتيال عشية الحديث عن احتلال غزة، يجعل من العملية أكثر من جريمة استهداف فردي، ليضعها في سياق سياسي وعسكري يسبق العاصفة.

في المشهد الفلسطيني، حين تُقتل الكاميرا، لا يكون الهدف إسكات صوت فرد، بل وأد ذاكرة أمة، أنس الشريف لم يكن مجرد صحفي، بل حارس الحكاية وأرشيف اللحظة، الذي جعل من عدسته خندقاً في مواجهة السردية الصهيونية المهيمنة، واغتياله ليس حادثاً معزولاً في زحمة الدم، بل حلقة في استراتيجية محو الشهود التي لطالما مارسها الاحتلال، حيث تُصفّى العيون قبل أن يُفتح الباب للجرائم الكبرى، توقيت الرصاصة التي أخرست الشريف، على أعتاب ما يُحاك لغزة، يعيدنا إلى قاعدة استعمارية قديمة: قبل أن تغزو الأرض، اغزُ الوعي.

في زمنٍ تحوّلت فيه بعض المنصات الإعلامية إلى أبواق تُعيد صياغة بيانات الاحتلال، جاء أنس الشريف ليعيد تعريف الصحافة الميدانية المقاومة، لا كمنصة خبرية عابرة، بل كخط دفاع أول عن الحقيقة الفلسطينية، فلم يكن الشريف يلاحق الحدث من مسافة أمان، بل كان يسكن قلبه، حيث الغبار لم يهدأ بعد، وحيث رائحة البارود تختلط بدم الشهداء.

أنس كان شاهداً حيّاً لا متفرجاً من وراء الزجاج، يسير في أزقة غزة المحاصرة بكاميرا تُصوّب نحو الحقيقة، لا نحو ما يريد الاحتلال أن يراه العالم، وجعل من الصورة سلاحاً مضاداً قادراً على اختراق الجدران السميكة للسردية الصهيونية التي لطالما سوّقت القتل كدفاع عن النفس، وأعماله الاستقصائية لم تكتفِ بكشف مشاهد الإبادة الجماعية، بل عطّلت مفعول ماكينة الدعاية الصهيونية في الخارج، وكسرت معادلة "المجرم/الضحية" التي حاولت "تل أبيب" تكريسها، ففي كل تقرير ميداني، كان الشريف يضع العالم أمام خيارين لا ثالث لهما: إما أن ترى الجريمة كما هي، أو أن تُشاح ببصرك وتتواطأ.

اغتياله إذن ليس استهدافاً لشخص، بل محاولة لطمس ذاكرة بصرية فلسطينية وثّقت لحظةً تاريخية في مواجهة الاستعمار الصهيوني، وهي رسالة واضحة من كيانٍ بات يدرك أن الكاميرا الفلسطينية أخطر على وجوده من أي سلاح، وأن موت الشاهد قد يفتح الطريق لجرائم بلا شهود.

منذ أن وُلد المشروع الصهيوني على أرض فلسطين، لم يكتفِ الاحتلال بالسيطرة على الأرض، بل سعى إلى إبادة الذاكرة واغتيال من يحرسها، فالاحتلال الاستيطاني لا يكتفي بقتل الأجساد، بل يستهدف العيون التي ترى، والأصوات التي تروي، والأقلام التي تكتب، ومن شيرين أبو عاقلة إلى أنس الشريف، يتكرّر النمط ذاته: تصفية الشاهد قبل أن تكتمل رواية الجريمة.

هذه الاستراتيجية ليست طارئة، بل جزء من منهجية استعمارية عميقة: قبل أن يرتكب الاحتلال مجزرة، يضمن أولاً إسكات من يمكنه توثيقها، ففي الحروب السابقة كان يستهل عدوانه باغتيال قادة ميدانيين من الصف الأول، كما فعل مع -نائب قائد أركان المقاومة- أحمد الجعبري، أما اليوم فبات يفتتح مراحله بقتل صحفي يحمل كاميرا، وهذا التحوّل يعكس حالة ذعر سياسي وعسكري؛ فالكيان الذي يدّعي القوة المطلقة بات يخشى الحقيقة أكثر من أي سلاح آخر.

اغتيال أنس الشريف إذن لا ينفصل عن التصريحات الصهيونية الأخيرة التي تتحدث عن "مرحلة جديدة من الحرب في غزة"، فالتمهيد الميداني لا يبدأ دائماً بالدبابات، بل قد يبدأ بإسكات شاهد يعرف خريطة الإبادة وأدواتها، ويملك القدرة على كشفها للعالم في وقت حساس، إنها محاولة لإفراغ ساحة الوعي من أي صوت فلسطيني حر، قبل أن يبدأ فصل دموي جديد، يريد الاحتلال أن يكتبه بلا رقابة أو مساءلة.

في الحروب التي يخوضها الاحتلال على غزة، لا يُترك شيء للصدفة حتى توقيت القتل، فاغتيال أنس الشريف لم يكن حادثاً عابراً وسط الفوضى، بل عملية محسوبة بعناية، جرى اختيار لحظتها كما يُختار توقيت القصف الأول في المعركة، فالمكان الذي كان فيه أنس معروف لجيش الاحتلال منذ أشهر، كما أقر الصحفي الصهيوني يوفال أفراهام، لكن الرصاصة لم تنطلق إلا الآن، عشية الحديث العلني عن مرحلة جديدة من الحرب.

هذا التزامن يكشف أن الاغتيال ليس مجرد انتقام من صوت أزعجهم، بل خطوة في هندسة المشهد الإعلامي والسياسي قبل احتلال محتمل لمدينة غزة، فوجود أنس على الأرض كان يعني أن أي عملية عسكرية قادمة ستُوثّق بعدسته لحظة بلحظة، وستخرج صورها إلى العالم دون فلترة أو تزوير، وإسكات الكاميرا قبل تحريك الدبابات هو في منطق الاحتلال، ضمانة لتقليل كلفة السردية الدولية التي قد تدينه.

إنها لغة السياسة في الدم: حين يقرر الاحتلال أن يحذف الشاهد من المعادلة، فهو لا يزيل إنساناً فقط، بل يحذف احتمالاً خطيراً لفضح جرائمه في لحظة يريد فيها السيطرة الكاملة على الصورة والخبر، وبذلك يصبح اغتيال أنس الشريف أقرب إلى إعلان مبكر عن النوايا، ورسالة ضمنية بأن ما سيأتي بعده قد يكون أوسع وأبشع.

قبل أن تتحرك الجرافات والدبابات، يشن الاحتلال هجومه الأول على الوعي، فالمعركة الحقيقية في فلسطين لا تدور فقط حول الجغرافيا، بل حول الرواية التي ستبقى بعد انقشاع الغبار، وفي هذه المعركة يدرك الاحتلال أن الكاميرا الفلسطينية ليست مجرد أداة توثيق، بل سلاح استراتيجي يملك القدرة على نسف شرعية وجوده أمام العالم.

أنس الشريف كان واحداً من القلائل الذين أدركوا أن كل صورة، كل مشهد من بين الركام، هو طلقة في معركة الرواية، وأن الحضور الميداني لا يعني نقل الحدث فقط، بل تفكيك الأكاذيب التي تبنيها ماكينة الدعاية الصهيونية، ومن هنا يصبح اغتياله خطوة متقدمة في خطة الاحتلال لإعادة هندسة المشهد البصري في غزة، بحيث لا يبقى سوى ما تصوره عدساتهم أو من يتبنى روايتهم.

هذه ليست مجرد سياسة قمع إعلامي، بل جزء من عقيدة السيطرة الاستعمارية: إذا لم تستطع إخفاء الجريمة، حاول على الأقل احتكار روايتها، والاحتلال يعلم أن الحرب المقبلة على غزة، إذا جرت تحت عيون صحفيين فلسطينيين أحرار، ستُحاصره أخلاقياً وسياسياً أمام الرأي العام العالمي، لذلك فإن تغييب أنس الشريف ليس غاية في ذاته، بل وسيلة لإسكات ذاكرة حية قبل أن تشهد على فصل جديد من الإبادة.

حتى إعلام العدو العبري اعترف بما حاول الاحتلال إخفاءه، فقد جاء في أحد تقاريره: "تأثير أنس الشريف على وضع إسرائيل في العالم كان أكبر بكثير من تأثير عدد غير قليل من كبار قادة الجناح العسكري لحماس"، وهذا الاعتراف ليس مجاملة، بل شهادة غير مقصودة على حجم المعركة التي خاضها أنس بسلاح الكلمة والصورة، و"إسرائيل" التي تملك ترسانة عسكرية هائلة، كانت تخسر حربها الدعائية أمام عدسة شاب فلسطيني يقف وسط الركام، يروي الحكاية بعيون أهلها، لذلك لم يكن اغتياله انتقاماً عاطفياً، بل خطوة محسوبة في استراتيجية إسكات الرواية الفلسطينية الحرة.

إرث أنس لا يُقاس بعدد التقارير التي أنجزها، بل بعدد المرات التي أجبر فيها العالم على مواجهة الحقيقة دون مساحيق سياسية أو عسكرية، لقد جسّد نموذج الصحفي المقاوم الذي لا يقف عند حدود المهنة، بل يتجاوزها إلى دور الحارس على ذاكرة الشعب، واغتياله لم يمحُ هذا الأثر، بل عمّقه وحوّله إلى رمز في معركة طويلة، حيث الكاميرا قد تهز عروشاً لا تهزها الصواريخ.

في النهاية، لم يكن أنس الشريف مجرد مراسل ميداني، بل كان جبهة متقدمة في معركة الوعي، وخط تماس بين الحقيقة والطمس، بين الرواية الفلسطينية الأصيلة ومحاولات الاستعمار لسرقتها، ومع كل محاولة لإسكات هذه الأصوات، يقترب الاحتلال أكثر من لحظة انكشافه الكامل أمام العالم، لحظةٍ سيكون فيها سقوطه السياسي والأخلاقي أمراً حتمياً.

اغتيال أنس الشريف ليس نهاية قصة، بل بداية فصل جديد في معركة الوعي الفلسطيني، فالصاروخ الذي أعدمه ميدانياً لم يخترق جسده وحده، بل حاول أن يصيب الحقيقة ذاتها، وأن يمحو شاهداً كان يفضح الجريمة بعدسته، لكن الاحتلال كعادته أساء تقدير المعركة؛ فالأصوات التي تحمل الحقيقة لا تُدفن، بل تتكاثر.

اليوم، ونحن على أعتاب مرحلة جديدة من العدوان على غزة، يحمل دم أنس رسالة أعمق من أي خطاب سياسي: أن الذاكرة الفلسطينية محصنة بدماء أبنائها، وأن كل كاميرا أُسكتت ستنبت عشرات، وكل شاهد صُفّي سيخلفه جيش من الحراس على الرواية، هذا الاحتلال الذي بدأ يرتجف من الحقيقة أكثر مما يخشى السلاح، يقترب من نهايته، لا لأننا نملك القوة المادية وحدها، بل لأننا نملك الحكاية التي لا يستطيع اغتيالها.
 


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
التعليقات (0)