نزع سلاح المقاومة: استهداف للسيادة لا مجرد خطوة أمنية

د. أميرة فؤاد النحال تكتب: قراءة في الأجندة الخفية لنزع سلاح المقاومة في غزة

profile
د. أميرة فؤاد النحال كاتبة وباحثة فلسطينية
  • clock 6 أغسطس 2025, 2:14:22 م
  • eye 417
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01
تعبيرية

حين يطالبون غزة بنزع سلاح المقاومة، فهم لا يتحدثون عن خطوة أمنية معزولة، بل عن عملية جراحية تستهدف شريان الوجود الوطني، فالسلاح هنا ليس مجرد أداة قتال، بل حارس للذاكرة ومفتاح للسيادة.

التاريخ يعجّ بشواهد تُفضح فيها هذه الأجندة الخفية: في فيتنام، لم يكن الرصاص آخر المعارك، بل كان الوعي المسلح هو الهدف الحقيقي للاستعمار؛ وفي الجزائر، كانت بنادق المجاهدين أهم عائق أمام مشروع فرنسة الأرض والهوية؛ أما البوسنة فحين أُفرغت من سلاحها بحجة السلام، صارت أسيرة اتفاق يقيّد إرادتها قبل حدودها، حتى أوكرانيا، التي تسلّحت لتصدّ الغزو، تدرك أن أي مفاوضات حول نزع قوتها النارية هي تمهيد لتقييد قرارها السياسي.

غزة اليوم في قلب المعادلة ذاتها: المطالبة بتجريد المقاتل ليست سوى المحطة الأولى في مشروع تجريد الوطن، إنها محاولة لإعادة صياغة خريطة القوة لصالح الاحتلال، وتحويل المقاومة من فاعل مؤثر إلى ذكرى يمكن تأبينها على المنصات، وإنّ فهم هذه الأجندة الخفية يتطلب قراءة متقاطعة بين تجارب الشعوب التي قاومت، واستيعاب أن السلاح في غزة ليس ترفاً عسكرياً، بل شرطاً لعدم تحوّلها إلى نسخة جديدة من البوسنة تحت الوصاية، أو الجزائر قبل الاستقلال، أو فيتنام قبل الحسم.

حين يطرحون على غزة معادلة "الأمن مقابل السلاح"، فإنهم في الحقيقة يكتبون صيغة جديدة للهزيمة؛ صيغة تبدأ من تجريد المقاتل، لكنها تنتهي إلى إعادة صياغة النظام السياسي بما يخدم الاحتلال، وهذه ليست فرضية نظرية، بل قانون مكرر في تجارب الشعوب:

  • في أوكرانيا، كان الغرب يدفع كييف أحياناً لقبول تسويات تُقيّد قدرتها الهجومية، بحجة تجنب التصعيد، بينما الحقيقة أن الهدف هو ضبط إيقاع الحرب بما لا يخرج عن سقف المصالح الدولية.
  • في البوسنة، كان نزع السلاح هو البوابة التي دخل منها اتفاق دايتون ليحول الكيان الوليد إلى دولة محاصرة الإرادة، لا تستطيع اتخاذ قرار استراتيجي دون إذن القوى الراعية للاتفاق.

غزة تُستدرج إلى نفس المربع: إقناعها بأن التخلّي عن قوتها العسكرية سيمنحها أماناً اقتصادياً وسياسياً، بينما الهدف الفعلي هو إلغاء قدرة المقاومة على فرض أي معادلة تفاوضية، فالسلاح، في جوهره ليس مجرد مخزون عسكري، بل ضمانة بقاء تمنع الاحتلال من تحويل المقاومة إلى أرشيف، والقرار الفلسطيني إلى ملحق أمني تابع.

التاريخ يعلّمنا أن الرصاصة الأولى لا تُطلق فقط لتحرير الأرض، بل لحماية الذاكرة من المصادرة، وأن نزع السلاح ليس خطوة تقنية، بل إجراء استراتيجي لاقتلاع الجذر الذي يُغذي فكرة التحرر.

في الجزائر، حاول الاستعمار الفرنسي أن يُنهي ثورة التحرير عبر تجفيف منابع السلاح، مدركاً أن إخماد البندقية يعني إخماد اللهجة الثورية التي تزرعها في الوعي الجمعي، لكن الجزائريين فهموا المعادلة باكراً: أن تُجرّد من سلاحك هو أن تُجرّد من حقك في رسم مصيرك، لذلك كان تهريب السلاح عبر الحدود، وحماية خطوط الإمداد، فعلاً سيادياً بامتياز، لا يقل أهمية عن المواجهات المباشرة.

وفي فيتنام، أدركت الولايات المتحدة أن الانتصار العسكري على الورق لا يساوي شيئاً إذا بقيت البنادق في يد الفيتكونغ (Viet Cong)، فكان مشروعها في ما بعد الحرب هو تحويل المقاتلين إلى موظفين في منظومة أمنية محلية، تخدم الاستقرار على مقاس المحتل، لا على مقاس الشعب، لكن الفيتناميين رفضوا هذا التحويل، متمسكين بفكرة أن البندقية لا تُسلم إلا عند انتفاء الحاجة إليها، والحاجة في منطق الشعوب المحتلة لا تنتهي إلا بزوال المحتل نفسه.

غزة اليوم تقف أمام المشهد نفسه: حين يطالبونها بنزع السلاح، فهم لا يستهدفون قدرة المقاومة على إطلاق النار فحسب، بل يسعون إلى تفريغ الشخصية الوطنية من أدوات الفعل والردع، وتحويلها من قوة فرض معادلات إلى طرف يفاوض من موقع العجز، إنه انتقال من سلب القدرة العسكرية إلى إعادة صياغة هوية الجماعة السياسية بما يتوافق مع شروط الاحتلال، وهي خطوة تاريخياً لم تُنفذ إلا حين ينجح المحتل في جعل بندقيتك عبئاً، لا ضرورة وجودية.

حين تُرفع لافتة الأمن في وجه غزة، فالمقصود ليس أمن سكانها، بل أمن الاحتلال من فكرة المقاومة، هذه ليست معركة على نوع السلاح أو مداه، بل على وجوده كرمز ومعنى، فما تبقى في غزة بعد سنوات الحصار والتجريف العسكري هو فتات من ترسانة بدائية إذا ما قورنت بالجيوش التقليدية، ناهيك عن أن الحديث عن "خطر استراتيجي" يضع هذه الأسلحة في مرتبة السلاح النووي، ليس إلا مبالغة سياسية موجهة للتخويف وتبرير الإخضاع.

المشكلة الحقيقية ليست في مخزون غزة العسكري، بل في مشروعها المقاوم الذي يُصرّ على البقاء خارج منظومة الإذعان الإقليمي، وهذا ما يخيف الاحتلال: أن يبقى في طرف الخريطة جيب صغير يملك إرادة الاشتباك، حتى لو كان تسليحه متواضعاً، لأنه قادر على قلب المعادلات النفسية والسياسية في المنطقة.

البوسنة والهرسك تقدم مثالاً صارخاً: بعد الحرب جرى تجريدها من أغلب أسلحتها تحت شعار "السلام المستدام"، لكن الهدف الفعلي كان ضمان عدم قدرتها على إعادة تشكيل موازين القوة في وجه الأطراف التي فرضت عليها الاتفاق، وما نُزع لم يكن مجرد السلاح، بل حق القرار السيادي، حتى باتت البوسنة تعيش تحت وصاية دولية مقنّعة منذ عقود.

غزة تُستدرج الآن إلى نسخة خاصة من هذا السيناريو: اتفاقات ومبادرات تدّعي حماية المدنيين، بينما جوهرها تحويل المقاومة إلى وظيفة منزوعة المخالب، وتطويق أي إمكانية لتجديد مشروعها التحرري، ومن هنا يتضح أن الأجندة الخفية ليست أمنية بقدر ما هي هندسة سياسية لزمن ما بعد المقاومة.

الاحتلال يدرك أن تفكيك البنية المادية للمقاومة هو نصف المعركة فقط، أما النصف الآخر والأخطر فهو تفكيك الإرادة الجمعية على حمل السلاح مستقبلاً، فالسلاح ليس مجرد قطعة معدنية، بل شيفرة نفسية تنسج علاقة الشعب بمشروعه التحرري، وحين يُنتزع لا تُفرغ المخازن فحسب، بل تُفرغ العقول من فكرة الحق المشروع في القتال.

في الجزائر، حاولت فرنسا أن تُعيد تشكيل وعي الجزائريين بعد انتزاع سلاحهم، عبر برامج "الاستيعاب الوطني" التي تسوّق لمرحلة ما بعد الثورة كخيار حتمي، وتقدّم التخلي عن السلاح كشرط للتطور والحداثة، لكن الجزائريين الذين خبروا أن الرصاصة التي تُطلق من أجل الحرية لا يمكن أن تُختزل في جدار المتحف، رفضوا أن يتحول السلاح إلى مجرد ذكرى، وأبقوا رمزيته حية في الوعي الوطني.

أما في فيتنام، فقد فهم الاحتلال الأميركي مبكراً أن الهزيمة الحقيقية لا تُقاس بعدد الجنود القتلى، بل بمدى قدرة الشعب على تجديد قناعته بأن البندقية ضرورة وجودية، ولهذا حاولت واشنطن إغراق المجتمع الفيتنامي في مشاريع اقتصادية وثقافية تُجرّمه نفسياً من الداخل إذا فكر بالعودة إلى حمل السلاح، لكن الإرث النضالي كان أقوى، فتحوّلت ذاكرة السلاح إلى جزء من الهوية القومية.

غزة تواجه الآن هجوماً نفسياً مشابهاً: تصوير المقاومة على أنها عبء اقتصادي وأمني، وتحويل خطاب التنمية إلى غطاء لسياسات التجريد الرمزي، بحيث يبدو نزع السلاح وكأنه عبور إلى مرحلة مدنية مزعومة، نعم.. إنه مشروع لإعادة صياغة الذات الفلسطينية بحيث تُصبح المقاومة استثناءً لا قاعدة، ولتغيير المعنى الجمعي للبندقية من رمز للحرية إلى رمز للفوضى، ويعتبر هذا أخطر من نزع السلاح نفسه، لأنه يزرع في الوعي ما يشبه التحريم المعنوي للثورة، ويحوّل الأجيال القادمة إلى حُرّاسٍ طوعيين لزمن الهزيمة.

غزة اليوم ليست أمام معادلة السلاح أو السلام، كما يحاول خطاب التطبيع أن يختزل الأمر، بل أمام خيارين حادين: الصمود أو التلاشي البطيء، فالتجريد من السلاح في حالة غزة لا يفتح أبواب التنمية، بل يفتح بوابة إلى مرحلة الإبادة الناعمة، حيث لا يُقتل الشعب بالصواريخ، بل يُستنزف تدريجياً عبر الحصار، والهيمنة الاقتصادية، وتفكيك النسيج الاجتماعي، حتى يفقد القدرة على إعادة إنتاج مشروعه المقاوم.

التجارب التاريخية واضحة:

  • في البوسنة، جاء نزع السلاح تحت شعار "وقف الحرب"، لكنه ترك الكيان الناشئ في حالة شلل استراتيجي، مرتهناً لقرارات خارجية.
  • في الجزائر، لم يكن الاستقلال يعني إسكات البندقية فوراً، بل إبقاء روحها حاضرة كضمانة ضد أي ارتداد استعماري.
  • وفي فيتنام، كان التمسك بالسلاح المعنوي -حتى بعد توقف المعارك- شرطاً للحفاظ على استقلال القرار الوطني.

غزة اليوم تملك فتاتاً من القدرة العسكرية مقارنة بترسانات الجيوش، لكن هذه القدرة، مهما كانت محدودة، هي خط الدفاع الأخير أمام مشروع الإلغاء الكلي، والتخلي عنها يعني الانتقال من حالة مقاومة نشطة إلى حالة استسلام استراتيجي، تُدار فيه غزة كمنطقة منزوعة التأثير، محكومة بتوازنات يفرضها الاحتلال وحلفاؤه، لذلك فإن الصراع على سلاح غزة ليس صراعاً على معدّات، بل على حقها في البقاء لاعباً في معادلة الصراع، لا مجرد ساحة يجري التفاوض على مصيرها بين العواصم، وهنا تتضح القاعدة: من يقبل اليوم بنزع البندقية، يوقّع غداً على نزع الوطن.

إن معركة نزع سلاح المقاومة في غزة ليست فصلاً طارئاً في كتاب الصراع، بل هي إعادة كتابة العنوان الرئيس بما يخدم مشروع الاحتلال: تحويل غزة من مصدر إرباك استراتيجي إلى مساحة خاضعة لشروط الإملاء، كل التجارب التي مرت بها الشعوب -من فيتنام إلى الجزائر، ومن البوسنة إلى أوكرانيا- تؤكد أن المعركة على السلاح هي في جوهرها معركة على الإرادة، وأن تفكيك القدرة العسكرية هو البوابة لتفكيك الهوية السياسية.

غزة التي يصفون سلاحها بالتهديد الاستراتيجي لا تملك أكثر من فتات قوة مقارنة بترسانات المنطقة، لكن هذا الفتات يُربك حسابات العدو لأنه يحمل مشروعًا لا يُقاس بعدد الصواريخ، بل بمدى استعداده للاستمرار، لهذا فإن جوهر الأجندة الخفية ليس حماية المدنيين، ولا إعادة الإعمار، بل إعادة هندسة غزة لمرحلة ما بعد المقاومة، حيث تُختزل في دور إداري منزوع المخالب، وتُدار بآليات الأمن الموجهة من الخارج.

التاريخ يحكم على من يتخلى عن سلاحه قبل أن تتحقق أهدافه، لا كمقاتل فقد بندقيته، بل كشعب فقد بوصلته، وغزة اليوم أمام خيار وجودي: أن تبقى بندقيتها حارساً لحقها، أو أن تتحول إلى نسخة معاصرة من البوسنة المحاصرة أو الجزائر قبل الاستقلال، إنها ليست معركة معدّات، بل معركة حق في البقاء كفاعل حر في معادلة الوجود، وهذا الحق لا يُنتزع إلا إذا تحولت البنادق إلى ديكور في المتاحف، والذاكرة إلى وثيقة في أرشيف الأمم المتحدة.

في النهاية، يدرك الاحتلال أن غزة بلا سلاح هي غزة بلا مشروع، وأن تجريدها من أدواتها القتالية يعني تجريدها من حقها في الحاضر والمستقبل، لذلك، فإن المعركة على البندقية هي المعركة على الوطن ذاته، ومن يخسر الأولى، يخسر الثانية حتماً.


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
التعليقات (0)