أ. ساري سعد يكتب: اعتراف بريطانيا بالدولة الفلسطينية.. قراءة دستورية وسياسية في ضوء النظم الدستورية ومآلات وعد بلفور

profile
  • clock 21 سبتمبر 2025, 8:38:25 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01
الدولة الفلسطينية


شهد اليوم 21 سبتمبر 2025 حدثًا فارقًا في مسار القضية الفلسطينية؛ إذ أعلنت كل من بريطانيا وكندا وأستراليا اعترافها الرسمي بدولة فلسطين. تأتي هذه الخطوة في إطار موجة أوسع من الاعترافات الدولية التي بدأت منذ 2024 مع دول أوروبية وأمريكية لاتينية، وترافقت مع استعداد دول أخرى كفرنسا وبلجيكا للانضمام إلى هذا المسار، وتأكد كذلك اعتراف البرتغال اليوم، الاعتراف البريطاني على وجه الخصوص يحمل دلالات قانونية ودستورية وتاريخية بالغة الأهمية، نظرًا لارتباط بريطانيا بوعد بلفور 1917م وبفترة الانتداب التي مهدت لقيام إسرائيل.

 

أولاً: الاعتراف الدولي من منظور القانون الدستوري
 

من منظور القانون الدولي العام، الاعتراف بدولة فلسطين هو عمل أحادي الجانب تعلن من خلاله دولة ذات سيادة إقرارها بالشخصية القانونية الدولية لفلسطين. هذا الاعتراف لا ينشئ الدولة، لكنه يعزز أهليتها للانضمام إلى المنظمات الدولية، إبرام المعاهدات، وفتح البعثات الدبلوماسية.

 

أما من منظور القانون الدستوري الداخلي، فإن سلطة الاعتراف بالدول في بريطانيا (كما في معظم النظم البرلمانية) تدخل ضمن الاختصاصات التنفيذية للسلطة الحاكمة (Crown prerogative) ومع أن الحكومة تتمتع بهذه الصلاحية، فإنها تبقى مسؤولة أمام البرلمان سياسيًا، وهو ما يعكس التوازن بين القانون الدستوري الداخلي والقانون الدولي العام.

 

ثانياً: الدلالة الدستورية الفلسطينية
 

الاعتراف الخارجي يرسخ مبدأ السيادة الشعبية الفلسطينية ويمنح المؤسسات القائمة سندًا إضافيًا للتحول من "سلطة انتقالية" إلى مؤسسات دولة معترف بها، وهو ما ينعكس إيجابًا على أي دستور وطني مستقبلي، إذ يوفر له شرعية دولية مضافة.

 

ثالثاً: وعد بلفور ومصيره بعد الاعتراف البريطاني
 

وعد بلفور 1917 كان إعلانًا سياسيًا منح اليهود حق إقامة وطن قومي في فلسطين، وأُدرج لاحقًا في صك الانتداب البريطاني.

الاعتراف البريطاني بدولة فلسطين اليوم لا يُلغي النص التاريخي لوعد بلفور من الناحية القانونية، لكنه يُشكّل:


1. تصحيحًا رمزيًا لمسار سياسي تاريخي كان مجحفًا بحق الشعب الفلسطيني.


2. اعترافًا ضمنيًا بالمسؤولية التاريخية، بما يفتح الباب أمام نقاشات حول الاعتذار أو التعويض المعنوي، دون أن يرتب التزامات قانونية مباشرة على بريطانيا.

 

رابعاً: دور طوفان الأقصى وتداعيات 7 أكتوبر
 

لا يمكن فهم موجة الاعترافات الدولية الأخيرة بعيدًا عن الزلزال السياسي والأمني الذي أحدثته عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023. هذه العملية وما تبعها من حرب واسعة على غزة أعادت:


1. إحياء القضية الفلسطينية في الأجندة الدولية بعد سنوات من التهميش، وجعلتها على رأس أولويات مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة.
 

2. تغيير معادلات الخطاب السياسي والإعلامي: إذ لم يعد ممكنًا التعامل مع فلسطين كقضية إنسانية أو إغاثية فحسب، بل كقضية سياسية ذات جذور تاريخية تتعلق بالحقوق الوطنية والدستورية لشعب تحت الاحتلال.
 

3. إعادة فرز المواقف الدولية: فبينما ساندت بعض الدول إسرائيل بشكل مطلق، دفعت التطورات الميدانية والأزمة الإنسانية دولاً أخرى إلى إعادة النظر في مواقفها التاريخية، وصولاً إلى اتخاذ خطوة الاعتراف بفلسطين كدولة.
 

4. تعزيز الحجة القانونية الفلسطينية: مشاهد الحرب والدمار أظهرت هشاشة النظام الدولي القائم، وأعادت تسليط الضوء على مبدأ تقرير المصير كقاعدة دستورية دولية عليا لا يمكن تجاهلها.

 

بهذا المعنى، يمكن القول إن #طوفان_الأقصى كان حدثًا صادماً غيّر موازين الشرعية الدولية، ومهّد – بطرق غير مباشرة – إلى تحولات سياسية كبرى، من بينها اعترافات غربية غير مسبوقة بالدولة الفلسطينية.

 

خامساً: البعد المقارن – اعتراف (السويد وإيرلندا وفرنسا)


1. السويد (2014): كانت أول دولة غربية في الاتحاد الأوروبي تعترف رسميًا بفلسطين. القرار صدر من حكومة يسار وسط، واستند إلى مبدأ دعم القانون الدولي وحق تقرير المصير.

 الاعتراف السويدي جاء في سياق سياسي داخلي أقل تعقيدًا من بريطانيا، وواجه معارضة إسرائيلية حادة لكنه لم يؤثر جذريًا على علاقة ستوكهولم بالاتحاد الأوروبي.


2. إيرلندا (2024): الاعتراف جاء متناغمًا مع تاريخ إيرلندا الاستعماري الخاص وتجربتها في مقاومة الاحتلال. البعد الرمزي هنا قوي جدًا، إذ ترى إيرلندا في الاعتراف تعبيرًا عن تضامن تاريخي مع نضال الشعب الفلسطيني.


3. فرنسا (2025): الموقف الفرنسي أكثر حذرًا؛ إذ أعلن الرئيس ماكرون أن الاعتراف مشروط بخطوات عملية على الأرض مثل إطلاق سراح رهائن وضمانات سياسية. هذا يعكس طبيعة النظام شبه الرئاسي الفرنسي حيث توازن السلطة التنفيذية بين متطلبات السياسة الخارجية والمصالح الأوروبية والأطلسية.

 

بريطانيا (2025):الاعتراف البريطاني يختلف نوعيًا لسببين:


1. الإرث التاريخي لوعد بلفور ودور الانتداب البريطاني


2. ثقل بريطانيا السياسي كعضو دائم في مجلس الأمن، لذلك يمكن القول إن الاعتراف البريطاني يتجاوز الرمزية، ليصبح تحولًا استراتيجياً في السياسة الخارجية البريطانية.

 

سادساً: فتح السفارات والبعثات الدبلوماسية
 

الاعتراف عادة ما يتبعه تبادل للبعثات الدبلوماسية، ورفع مستوى التمثيل إلى سفارات في الحالة الفلسطينية:


_ تمتلك فلسطين بعثات وممثليات في معظم الدول الأوروبية، وهذه يمكن ترقيتها إلى سفارات رسمية بمجرد توقيع اتفاقيات تبادل دبلوماسي كامل.


_ في المقابل، فتح سفارات للدول المعترفة في فلسطين يواجه تحديات أمنية وسياسية مرتبطة بالوضع الميداني في رام الله والقدس، وقد تضع بعض الدول شروطًا مسبقة (كما فعلت فرنسا).


_ هذه الخطوات البروتوكولية، رغم طابعها الشكلي، تمثل اعترافًا عمليًا على الأرض وتجعل فلسطين فاعلًا طبيعيًا في شبكة العلاقات الدولية.

 

واعتراف بريطانيا بالدولة الفلسطينية يمثل منعطفًا تاريخيًا على المستويين القانوني والسياسي، فهو من جهة يكرّس الشرعية الدولية للدولة الفلسطينية، ومن جهة أخرى يفتح جرح الماضي المتمثل في وعد بلفور، ليضع بريطانيا أمام مسؤولية تاريخية لا يمكن إنكارها.


أما على صعيد النظم السياسية، فإن الاعترافات الأوروبية والأسترالية الأخيرة تبرز اختلافات بين الدول في آليات صنع القرار الدستوري، لكنها جميعًا تؤدي إلى نتيجة واحدة: تعزيز مكانة فلسطين كدولة قائمة وذات سيادة في المجتمع الدولي.


وفي السياق ذاته، فإن طوفان الأقصى وما تلاه من حرب 2023–2024 كانا بمثابة الشرارة التي أعادت القضية الفلسطينية إلى قلب النظام الدولي، ورسّختها باعتبارها قضية قانونية وسياسية لا يمكن تجاوزها أو الالتفاف عليها.

 

التعليقات (0)